أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد روي عن أبي سعيد الخدري في اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

1104 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن يزيد بن عبد الله الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأوسط من رمضان " .

فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه صلى الله عليه وسلم ، قال : " من اعتكف فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " .


ففي هذا الحديث أن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعتكافه العشر الأواخر كان في الليلة التي قبل اليوم الأول من العشر الأواخر ، بل غابت الشمس من اليوم العشرين وهو في معتكفه [ ص: 483 ] .

فقد دل ذلك أن من أراد الاعتكاف العشر الأول من شهر رمضان أنه يعتكف لياليها وأيامها غير أن الشافعي قد روى هذا الحديث عن مالك ، فخالف ابن وهب في حرف منه ، وذلك أن إسماعيل المزني :

1105 - حدثنا ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه " ، ثم ذكر بقية الحديث .

فأما قوله : " حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه " ، فهو على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من اعتكافه العشر الأوسط حتى تمضي ليلة إحدى وعشرين وليست من العشر الأوسط .

وقد خالفه في ذلك ابن وهب فيما رويناه عنه عن مالك ، فهو عندنا على ما روى ابن وهب ، لأن الليث والدراوردي جميعا قد رويا هذا الحديث عن ابن الهاد كما رواه ابن وهب ، عن مالك ، لا كما رواه الشافعي عنه .

1106 - حدثنا فهد بن سليمان ، ومحمد بن خزيمة ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة يمضي ويستقبل إحدى وعشرين ، رجع إلى مسكنه ، ويرجع من جاور معه ، ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب الناس ، وأمرهم بما شاء الله - عز وجل - ، ثم قال : " إني كنت أجاور هذا العشر ، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليمكث في معتكفه .

1107 - " حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ابن الهاد ، ثم ذكر بإسناده مثله سواء حرفا حرفا .

فكان هذا الحديث موافقا لما روى ابن وهب ، عن مالك ، ومخالفا لما رواه الشافعي ، عن مالك [ ص: 484 ] .

وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام في معتكفه ليلة إحدى وعشرين لما أراد اعتكاف العشر الأواخر .

فدل ذلك على أن كذلك سنته - صلى الله عليه وسلم - فيمن أراد اعتكاف أيام ، أن عليه اعتكاف لياليها معها ، وأنه يبتدئ في دخوله في معتكفه قبل غروب الشمس من اليوم الذي قبلها ، فلا يزال فيه حتى تمضي الأيام التي أوجب على نفسه اعتكافها وحتى تمضي لياليها .

فقد اختلف أهل العلم في مثل هذا في رجل قال : لله - عز وجل - علي اعتكاف عشرة أيام .

فكان بعضهم يقول : يدخل المسجد عند غروب الشمس من اليوم الذي قبلها ، فيقيم فيه معتكفا إلى انقضاء تلك العشرة الأيام ، فيكون قد اعتكف عشرة أيام وعشر ليال وممن قال ذلك منهم : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد فيما حدثنا محمد بن علي ، عن محمد ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعن علي ، عن محمد .

وقال بعضهم : يدخل المسجد الذي يعتكف فيه عند طلوع الفجر من اليوم الأول من تلك العشرة الأيام فيقيم فيه حتى تنقضي تلك العشرة الأيام ، فيكون قد اعتكف عشرة أيام وتسع ليال ، وممن قال ذلك زفر بن الهذيل ، فيما حدثنا محمد ، عن يحيى ، عن الحسن ، عن زفر .

قال أحمد : وكان ما ذهب إليه أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد في ذلك أحب إلينا ، لأنه موافق لما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما قد ذكرناه في هذا الباب ، ولأنه قد دلنا عليه كتاب الله عز وجل في الحكاية عن نبيه زكريا عليه السلام ، إذ قال : ( رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) .

وقال في موضع آخر : ( ثلاث ليال سويا ) .

فعقلنا بذلك أن زكريا سأل ربه أن يجعل له آية فجعل له آية واحدة كما سأله ، ثم ذكرها لنا في كتابه في موضع بالأيام ، وفي موضع آخر بالليالي ، وسوى بين عدد الأيام وعدد الليالي .

فعقلنا بذلك أنه إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورا بالأيام ، فقد دخلت فيها الليالي ، وإن كان مأمورا بالليالي فقد دخلت فيها الأيام ، ولما استوى عدد الأيام [ ص: 485 ] وعدد الليالي في ذلك وجب أن يكون من أوجب على نفسه اعتكاف أيام ، كان عليه معها من الليالي مثل عددها ، وإن أوجب على نفسه اعتكاف ليال ، كان عليه معها من الأيام مثل عددها ، فثبت بذلك ما قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد مما ذكرنا عنهم في هذا المعنى .

تم كتاب الصيام ، والاعتكاف ، من كتاب أحكام القرآن العظيم ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

فرغ من نسخه أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته محمد بن أحمد بن صفي الغزولي ، عفا الله عنه ، في مستهل شعبان الكرم سنة 757 هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية