أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد ذكرنا فيما تقدم ما في كتابنا هذا قول الله عز وجل : ( الحج أشهر معلومات ) ، وما روي في ذلك مما يراد به من الشهور ، ويتلو ذلك من الآية قول الله عز وجل : ( فمن فرض فيهن الحج ) وكان يعني قوله جل وتعالى : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي من أوجب على نفسه الحج فيهن . فاحتمل أن يكون قوله جل وتعالى ( فمن فرض فيهن الحج ) ، أي من أوجب على نفسه أن يحج فيهن ، كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . لأن الحج الذي يوجبه على نفسه لا يكون إلا فيهن . واحتمل أن يكون أراد بمن أوجب على نفسه الحج فيهن ، فيكون عني الإيجاب والحج جميعا فيهن . وكان معنى قوله عز وجل : فيهن أي : في بعضهن ، لأن الإيجاب الذي أراد عز وجل بقوله : فيهن إن كان الحج ، فإن الحج إنما يكون في بعض أحدهن . وإن كان هو الإحرام فإنما يوجبه على نفسه أيضا في ساعة من إحداهن فيلزمه ذلك . ولم نر أحدا من أهل العلم ذهب إلى أن المراد بقوله عز وجل : فيهن أي : في جميعهن ، ولا أوجب على أحد ممن أراد الحج أن يحرم في أول يوم من شوال حتى يكون في شهور الحج كلها محرما بالحج .

[ ص: 18 ] فإن كان المراد بالآية ما ذكرناه من التأويل الأول من هذين التأويلين ، وإنه على أن يكون من أوجب على نفسه أن يحج فيهن كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . ثبت بذلك أن للناس جميعا أن يحرموا بالحج في أشهر الحج وفيما قبلهن ، ثم لا يكون الحج الذي يوجبونه إلا في الوقت الذي يقضى فيه الحج من شهور الحج .

وإن كان المراد بالآية ما ذكرنا من التأويل الثاني ، وإنه على أن يكون إيجاب الحج وقضاء الحج فيهن ، لم يكن ذلك مانعا من الإحرام به قبلهن . لأنا قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل للإحرام بالحج مواقيت معلومات ذكرها وسماها ، وسمى أهلها والمارين بها من غير أهلها . وروي عنه في ذلك ما :

1134 - قد حثنا يونس والربيع بن سليمان المرادي ، قالا حدثنا يحيى بن حسان ، قال حدثنا وهيب بن خالد وحماد بن زيد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم . ثم قال : هي لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن . فمن كان أهله دون الميقات ، فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة .

1135 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا كثير بن هشام ، قال حدثنا جعفر بن برقان قال : سألت عمرو بن دينار عن امرأة حاجة مرت بالمدينة ، فأتت ذا الحليفة وهي حائض فقال لها : كريها ، لو تقدمت إلى الجحفة فأحرمت منها .

فقال عمرو : حدثنا طاوس ، ولا يحسبن فينا أحد أصدق من طاوس ، قال : قال ابن عباس : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثله . غير قوله : " فمن كان أهله " إلى آخر الحديث ، فإنه لم يذكر ذلك .

1136 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهيب بن جرير ، قال حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار ، عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 19 ] أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم .

1137 - وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا أبو نعيم ، قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله . ولم يذكر في إسناده نافعا .

فلم يكن توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس هذه المواقيت مانعا لهم من الإحرام بالحج قبلها ، لأن من أحرم بالحج في أشهر الحج قبل هذه المواقيت أو بعدها لزمه الحج باتفاقهم جميعا ، لا اختلاف بينهم فيه علمناه .

وإن كان المقصود إليه بتوقيتها هو أن يكون الإحرام منها غير متقدم لها ولا متأخر عنها . فلما كانت المواقيت التي ذكرنا للإحرام لا يمنع من الإحرام بالحج قبلها ولا بعدها وإن كان الذي أحرم به بعدها مسيئا ، كان الأوقات أيضا للإحرام لا يمنع من الاحرام بالحج قبلها .

فقال قائل : فقد روي عن جابر أنه سئل : أيحرم الرجل بالحج في غير أشهر الحج ؟ قال : لا . ولم نجد في ذلك عن أحد من الصحابة ما يخالفه .

قيل له : لكنا قد وجدنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال جابر في هذا .

1138 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة المرادي ، قال قال رجل لعلي رضي الله عنه قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ؟ قال : تحرم من دويرة أهلك .

فهذا علي رضي الله عنه قد قال هذا القول جوابا لقائله عن تأويل الآية التي سأله عن تأويلها ، وأخبره أن الإتمام للحج والعمرة المذكور فيهما من حيث ينشئهما الذي يريدهما . وقد كان هذا الجواب منه ، وللمسلمين بلدان مسافة ما بينها وبين مكة أكثر من .

[ ص: 20 ] مدة شهور الحج . ومعلوم أن المحرم بالحج منها الذي يوافي مكة في إحرامه بالحج منها لم يكن إحرامه ذلك إلا قبل شهور الحج بمدة طويلة . وعلي رضي الله عنه فجمع الناس جميعا في جوابه الذي حكيناه عنه . ولم يفرق بين بعيد الدار منهم من مكة ، ولا بين قريب الدار منهم منها . فدل ذلك على إطلاقه للناس الإحرام بالحج قبل أشهر الحج . وكان ذلك عندنا أولى من قول جابر الذي ذكرنا . لأن عليا أخبر أن ذلك تأويل آية أخرى من كتاب الله عز وجل ، ولم يرو عن جابر ، ولا عمن سواه وسوى علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل تلك الآية غير أن الذي رويناه عن علي تأويلها ، وجابر فإنما روي لنا عنه في ذلك قوله من رأيه وكان القياس على ما قال علي من ذلك أدل لما قد ذكرناه من المواقيت فيما تقدم منا في هذا الباب . وهذا الذي ذكرناه من مذهب علي في الإحرام بالحج قبل شهور الحج ، قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن علي بن معبد ، عن محمد عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ؛ وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن علي بن معبد ، عن محمد عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ؛ وعن علي ، عن محمد عن أبي يوسف ؛ وعن علي عن محمد .

وقد كانت طائفة من أهل العلم تقول : إن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب على المحرم به عمرة ، ولا يوجب عليه حجة ، وهذا القول فغير صحيح عندنا من جهة التأويل ، ولا من جهة الآثار ، ولا من جهة القياس . لأن المحرم بالحج في غير أشهر الحج لا يخلو من أحد وجهين :

إما أن يكون يلزمه الإحرام بالحج كما أحرم به ، أو يكون لا يلزمه به الحج الذي أحرم به ، فيكون كمن لم يحرم به . ويكون لما لم يدخل فيه بإحرامه غير داخل في غيره . كرجل أحرم بالظهر قبل زوال الشمس فلا يكون بذلك داخلا فيها ، ولا في غيرها .

فإن قال قائل : إنما رددت إحرامه بالحج قبل أشهر الحج إلى أن جعلته عمرة . لأني رأيت الذي يفوته الحج قد رد إحرامه بالحج إلى عمرة !

فقيل له : تحل بعمرة وعليك الحج من قابل . فرد إحرامه ذلك من الحج إلى العمرة لفوت الحج إياه . قال : فكذلك رددت المحرم بالحج في غير أشهر الحج إلى العمرة لتقدمه في إحرامه وقت الحج . قيل له : وهل أعدنا إحرام الذي فاته الحج بالحج الذي كان أحرم به إلى أن جعلناه عمرة ؟ إنما أمرناه أن يفعل ما يفعل المعتمر من الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة حتى يحل من حرمة ما هو فيه من الحج . وذلك ما هو يمكنه أن يفعله من الحج .

[ ص: 21 ] الذي كان دخل فيه ، لا ما سواه مما قد فاته منه . وكيف يكون معتمرا بغير تلبية يستأنفها ويدخل بها في العمرة ؟ ألا ترى أنه لو لم يكن بعد أن فاته الحج حتى طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحلق أنه قد حل ، وقضى ما عليه مما يوجبه فوات الحج عنه إلا ما يوجبه عليه مع ذلك من يوجبه عليه ما استيسر من الهدي . وسنذكر ذلك وأقوال أهل العلم فيه ، وما يدخل لبعضهم على بعض فيه ، وما يصح في ذلك بآثار أو بقياس في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

وإنما قيل له : يحل بعمرة . أي يحل بمثل ما يحل به المعتمر . وإن كان ما يفعله من ذلك للحج الذي قد فاته ، لا لعمرة يأتنفها . أولا ترى أن من أحرم بعمرة أمر أن يلبي لها إلى وقت ما . فطائفة من أهل العلم تقول : إلى استلام الحجر . وطائفة منهم تقول : إلى أن يرى عروش مكة .

وسنذكر ذلك ، وما روي فيه ، وما يوجبه القياس فيه في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية