أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله عز وجل : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ) الآية .

قال الله عز وجل : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) وقد ذكر فيما تقدم منا في كتابنا هذا المراد بالفرض . وأن قوله جل وعلا : فلا رفث فإن المراد به هو الجماع . كقوله في الآية الأخرى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) أي الجماع .

[ ص: 32 ] وأما قوله جل وعز : ولا فسوق فإن المراد به الخروج من الأعمال التي هي طاعات لله عز وجل إلى الأعمال التي هي معاص . يدخل في ذلك السباب وغيره من الأشياء المحرمة على فاعلها مما كان محرما عليهم قبل الإحرام بالتعبد ، ومما كان حلالا لهم فحرم عليهم بالإحرام كقتل الصيد ، والتطيب ، ولبس الثياب وما أشبه ذلك .

وأما قوله عز وجل ( ولا جدال في الحج ) فإن المراد في ذلك مما قد اختلف فيه ما هو ؟ فقيل : معناه ، أي لا شك في الحج . وقيل : معناه أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وقد روى في هذه التأويلات التي ذكرنا عن عبد الله ، ما :

1169 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو عامر ، عن سفيان الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الرفث الجماع ، والفسوق السباب ، والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

1170 - وما قد حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس في قوله ( فلا رفث ) قال : الرفث الجماع .

قال أبو جعفر : فكان الذي رويناه عن ابن عباس في المراد بالرفث في الآية التي تلونا موافقا لما ذكرنا في التأويل الأول الذي استشهدنا له بقوله عز وجل : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) غير أنه قد روي عن ابن عباس وابن الزبير في الرفث قول غير هذا . وذلك أن أبا شريح محمد بن زكرياء .

1171 - قد حدثنا ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، في قوله عز وجل : ( فلا رفث ولا فسوق ) ، قال : الرفث الذي ذكر هاهنا ليس بالرفث الذي ذكر في المكان الآخر ، ولكن تعريض بذكر الجماع .

1172 - وأن محمد بن خزيمة قد حدثنا ، قال حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا حماد ، عن أبي الزبير ، عن طاوس ، قال : سمعت ابن الزبير يقول : إياكم والنساء ، فإن الإعراب من الرفث . والإعراب : أن تعرض لها بقول لو كنا حلالين اغتسلنا وفعلنا .

[ ص: 33 ] قال : فأخبرت بذلك ابن عباس فقال : صدق ابن الزبير .


وكان هذا عندنا غير مخالف للقول الأول ، لأن الرفث هو الجماع ، وما دون الجماع مما هو من أسبابه فجائز في اللغة أن يسمى باسمه إذ كان من أسبابه في حرمة الحج ، توكيدا منهما بحرمة الجماع في الحج .

وكان الذي فيه من المراد بالفسوق أنه السباب ، وليس ذلك بمخالف لما ذكرنا من التأويل في الفصل الأول . لأن السباب خروج من الطاعة إلى المعصية ، فذلك فسوق . لأن أصل " فسق " في كلام العرب إنما هو خرج . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) .

والعرب تقول : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من حال إلى حال . وقد سميت الفأرة وغيرها مما أبيح قتله في الحرم والإحرام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فواسق .

1173 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خمس فواسق يقتلن في الحرم والإحرام ؛ الكلب العقور ، والفأرة ، والحديا ، والعقرب ، والغراب .

فكان الكلب العقور يرى كما يرى الكلاب التي لا تعقر ، فيخرج من ذلك إلى العقر ، وكذلك الحديا والغراب يريان كما يرى غيرهما من الطير ، ثم يخرجان عن ذلك إلى الأذى لبني آدم في أبدانهم وأموالهم مما لا يفعله سواهما من الطير . وكذلك الفأرة تخرج عما يرى عليه إلى إحراق البيوت . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما سماها فاسقة لهذا المعنى .

[ ص: 34 ] 1174 - حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني ، قال حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا موسى بن أعين ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن يزيد بن أبي نعيم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يقتل المحرم الحية ، والعقرب ، والفأرة الفويسقة .

قال يزيد : وعد غير هذا فلم أحفظه .

قلت : ولم سميت الفأرة الفويسقة ؟ قال : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق على رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ، فقام إليها فقتلها ، وأحل قتلها لكل محرم أو حلال . أفلا ترى أن أبا سعيد الخدري قد أخبر في هذا الحديث أنها إنما سميت فويسقة بخروجها إلى ما خرجت إليه من ذلك .

وكان الذي فيه من المراد بالجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وقد روي هذا القول عن غير واحد من التابعين .

1175 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، أنه قال : الرفث الجماع . والفسوق المعاصي ، والجدال أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبه .

1176 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن جبر بن حبيب ، عن القاسم بن محمد قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم . ويقول بعضهم : الحج غدا .

1177 - حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا إسرائيل ، قال حدثنا أبو يحيى عن مجاهد في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : الجدال أن تماري .

[ ص: 35 ] صاحبك حتى يغضب أو تغضب .

وقد روي عن مجاهد خلاف هذا القول .

1178 - حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل ( ولا جدال في الحج ) قال : لا شك في الحج .

والقول الأول الذي رويناه عن مجاهد ومن وافقه عليه من التابعين ، وعمن تقدمه فيه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتأويل الآية من القول الثاني الذي رويناه عن مجاهد في تأويلها . لأن الجدال المعقول في كلام العرب هو مجاراة الكلام والمجاوبة عنه بين الناس ، كما قال عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) .

وكما قال جل وعز : ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) .

فكان ذلك كله على القول بالألسن والمنازعات بين الناس ، لا على الشك ، فكان تأويل الآية التي تلونا أشبه بهذا المعنى ، لأن الجدال لو كان على الشك لكان ذلك الشك يمنع من الدخول في الحج . لأن الحج لا يدخل فيه إلا المؤمنون الذين لا يرتابون ، ولا يشكون فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية