أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى أنه لا بأس أن يلبس المحرم الخفين إذا لم يجد النعلين ، وأن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار . واحتجوا في ذلك بما :

[ ص: 40 ] 1191 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا سليمان بن حرب الواسخي ، وأبو الوليد الطيالسي ، قالا : حدثنا شعيب ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن زيد ، يقول : سمعت ابن عباس ، يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، بعرفة ، يقول : من لم يجد إزارا لبس سراويل ، ومن لم يجد نعلين لبس خفين .

1192 - وبما حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا أبو نعيم ، قال حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، ولم يذكر عرفة .

1193 - وبما حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال حدثنا هشيم ، قال حدثنا عمرو بن دينار ، فذكر مثل حديث سفيان هذا .

1194 - وبما حدثنا ابن أبي داود ، أيضا ، قال حدثنا سعيد ، قال حدثنا حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فذكر مثله .

1195 - وبما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، قال أخبرنا ابن عباس ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه قلت : ولم يقل : يقطعهما ؟ قال : لا .

[ ص: 41 ] فكان من الحجة عليهم للآخرين في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح للمحرم في هذا الحديث لباس الخفين ، ولم يبين لنا أي خفين هما ، وقد بين ذلك ابن عمر في حديثه ذكرناه عنه في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهما الخفان اللذان أسفل من الكعبين ، فكان ذلك زيادة على ما في حديث ابن عباس ، وتبيان الخفين المرادين فيه أي الخفاف هما ؟

وأما ما في حديث ابن عباس الذي ذكرناه من لبس السراويل لمن لم يجد الإزار ، فقد يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يلبس السراويل مؤتزرا به ، غير داخل فيه ، على غير ما يلبس عليه السراويلات ، كما يلبس الخفين اللذين لا يبلغان الكعبين ، بخلاف ما يلبس الخفاف التي قد نهاه عن لبسها في الإحرام .

فإن قال قائل : فإن السراويل إذا شق لم يكن سراويلا .

قيل له : وكذلك الخفاف إذا قطعا أسفل من الكعبين لم يكونا خفين وإذا كان الذي أباح له النبي صلى الله عليه وسلم من لباس الخفين في الحديث الزائد ، وهو بعد أن يكونا خارجين عن حكم الخفاف المنهي عن لبسها في الإحرام ، كان ذلك دليلا على أن ما أباحه من لباس السراويلات إنما هو بعد أن يخرج من حكم السراويلات المنهي عن لباسها في الإحرام وذلك عندنا - والله أعلم - بعد أن يكون ساترا للعورة غير مقصر عن ذلك . وكان القياس يشهد لأهل هذا القول أيضا ، وذلك إنا رأينا الإحرام يمنع من لبس الخفاف ، ومن لبس السراويلات في غير حال الضرورات للمحرم ، ثم أبيح له لبسها في حال الضرورات . وقد رأينا أشياء منع منها المحرم كحلق الرأس وما أشبهه ، وكان من اضطر إلى حلق رأسه لمرض أو ضرورة حل له حلقه ، ووجبت عليه الكفارة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه بقوله : ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .

وذكرها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لما أمر كعب بن عجرة في التكفير عن حلق رأسه لما رأى به من الضرورة إلى ذلك والحاجة إليه ، وسنذكر ذلك فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله .

فكان حلق الرأس ، وإن أباحته له الضرورة ، لا يمنع أن تكون عليه فيه كفارة ، كما كانت تكون عليه في حلقه قبل الضرورة فعقلنا بذلك أن الضرورات في الإحرام ، .

[ ص: 42 ] وإن أباحه ما كان محظورا قبلها ، فإنما تسقط بها الآثام عن الذين تجب لهم الإباحات ، ولا تسقط عنهم الحرم التي كانت عليهم في ذلك قبل حدوث الضرورات بهم . فكان مثل ذلك لباس الخفاف المجاوزات للكعاب ، ولباس السراويلات لما كانا محظورين على المحرمين قبل الضرورات ، ثم حدثت بهم الضرورات إليها ألا تكون الحرمة فيهما مرتفعة عن المحرمين المضطرين إليهما ، وأن يكون ما أبيح لهم من استعمالها فللضرورات إليهما ، لا بسقوط حرمتهما وثبت بذلك أنه إذا استعمل منهما ما هو محرم في حال الضرورة كما كان قبل الضرورة ، إن على مستعمله منهم الكفارة التي كانت تكون عليه في استعمال ذلك قبل حدوث الضرورة .

ولما كان حديث ابن عباس الذي رويناه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحة لا كفارة معها ، عقلنا بذلك أن الذي أبيح بذلك الحديث هو لباس الخفين اللذين كانا غير محرم لبسهما قبل الضرورة ، وأن الذي أبيح من لباس السراويل هو ما كان غير محرم قبل الضرورة من خروج معنى حديث ابن عباس الذي رويناه في هذا الباب ، إلى معنى حديث ابن عمر الذي رويناه عنه في هذا الباب وهذا الذي ذكرناه من النهي في الإحرام عن لبس السراويلات والعمائم فهو حكم الرجال خاصة في الإحرام .

فأما النساء فإن حكمهن في ذلك خلاف هذا ، ولهن أن يلبسن في الإحرام السراويلات والعمائم بعد أن لا يغطين شيئا من وجوههن ، .

(و) لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية