أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية .

قال الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) وهذا مما قد اختلف في قراءته ، فقرأ قوم كما تلونا وقرأه قوم : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما فمن قرأه : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) . عائشة وسنذكر ذلك عنها بأسانيده في [ ص: 94 ] هذا الباب إن شاء الله .

وممن قرأه : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ابن عباس كما قد حدثنا .

1301 - يوسف بن يزيد ، قال حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " :

وقد روي عن أنس هذا أيضا كما :

1302 - حدثنا أحمد بن داود ، قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، قال حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عاصم بن سليمان قال ، قرأت عند أنس ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) قال أنس : ألا يطوف بهما .

وقد روي عنه خلاف هذا مما توافق القراءة الأولى ، وسنذكر ذلك بأسانيده في هذا الباب إن شاء الله .

وقد يجوز أن يرجع معنى هاتين القراءتين جميعا إلى معنى واحد ، لأن العرب قد تصل بلا كما قال عز وجل : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) وكما قال عز وجل : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) ، وكما قال عز وجل : ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) ، في معنى أقسم بيوم القيامة ، وأقسم بالنفس اللوامة ، وأقسم بمواقع النجوم ، وأقسم برب المشارق والمغارب .

وكان سبب نزول هذه الاية في ما روي عن عائشة ما :

1303 - قد حدثنا يونس ، قال حدثنا ابن وهب ، أن مالكا ، حدثه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وانا يومئذ حديث [ ص: 95 ] السن : أرأيت قول الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ؟ قالت عائشة : كلا ، لو كانت كما تقول كانت : فلا جناح أن لا يطوف بهما ، إنما أنزلت في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة .

فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) .


1304 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن مناة كانت على ساحل البحر وحولها الفروث والدماء ، يذبح لها المشركون ، فقال الأنصار : يا رسول الله ، إنا كنا إذا أحرمنا في الجاهلية لم يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) قال عروة : أما أنا فلا أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة قالت عائشة : لم يا ابن أختي ؟ قال : لأن الله عز وجل يقول : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فقالت عائشة : لو كان كما تقول لكانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما .

قالت عائشة : ولعمري ما تمت حجة أحد ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة
.

فزاد حديث حماد هذا عن هشام ، على حديث مالك عن هشام الذي ذكرناه قبله في هذا الباب ، قول عائشة : ما تمت حجة أحد ، ولا عمرته ، لم يطف بين الصفا والمروة .

[ ص: 96 ] وذلك مما لا يكون مأخوذا من جهة الرأي ، وإنما يؤخذ من جهة التوقيف فقول عائشة هذا دليل على وقوفها على وجوب الطواف بين الصفا والمروة في الحج والعمرة جميعا .

وأما قولها لعروة : " لو كانت كما تقول لكانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما فذلك عندنا قد يحتمل أن لو كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما أن يكون ذلك على معنى الصلة التي يرجع بها المعنى إلى قوله ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) .

وقد روى الزهري هذا الحديث عن عروة بزيادة معنى على هشام ، وبمعنى ذكره فيه عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كما :

1305 - قد حدثنا فهد ، قال حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، قال قال محمد بن شهاب ، قال عروة : سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت لها : أرأيت قول الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ؟ قال : فقلت لعائشة : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بين الصفا والمروة فقالت : بئس ما قلت يا ابن أختي! إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها عليه ، كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وإنها إنما أنزلت في أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون هم وغسان لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نتطوف بين الصفا والمروة حتى أنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما :

قال ابن شهاب : وأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن بالذي حدثني عروة من ذلك عن عائشة ، فقال أبو بكر : إن هذا لعلما ما كنت سمعته . ولقد سمعت رجالا من أهل العلم [ ص: 97 ] يزعمون أن الناس ، إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة الطاغية ، كانوا يطوفون كلهم بين الصفا والمروة .

فلما ذكر الله عز وجل أن الطواف بالبيت ، ولم يذكر الطواف بالصفا والمروة ، قالوا : هل علينا يا رسول الله حرج في أن نطوف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) .

قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية أنزلت في الفريقين كليهما ، في الذين كانوا يتحرجون في الجاهلية أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، والذين كانوا يطوفون في الجاهلية بين الصفا والمروة ، ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله عز وجل أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة مع الطواف بالبيت حين ذكره .

1306 - وكما حدثنا نصر بن مرزوق ، وابن أبي داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، فذكر بإسناده مثله .

غير أنه لم يذكر غسان في حديثه أصلا .

ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة . فدل ذلك على أن الطواف بينهما قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ما في كتاب الله من قوله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) إنما هو على إباحة الطواف بينهما ، وأن المعنى الذي كانوا يتحرجون من الطواف بينهما من أجله ، لا يمنعهم من الطواف بينهما ، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فصار الطواف بينهما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحد التخلف عنها مع ما قد تقدم من الله فيهما أن جعلهما من شعائره ، والشعائر هي العلامات التي جعلها الله عز وجل علامات لما دعا إليه ، والواحدة [ ص: 98 ] منها شعيرة ، وقد قال عز وجل : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية