أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد اختلف أهل العلم في خطب الحج ، فكان بعضهم يقول : هي ثلاث خطب ويختلفون في أوقاتها ، فيقول بعضهم : إحداهن قبل التروية بيوم بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها ، وأخرى يوم عرفة بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر والعصر خطبتين يجلس بينهما جلسة كما يصنع في الجمعة ، وخطبة أخرى بعد النحر بيوم بعد الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال ذلك منهم أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والحسن بن زياد فيما ذكر لنا محمد بن العباس ، عن يحيى بن سليمان الجعفي ، عن الحسن بن زياد ، عن أبي يوسف قال الحسن : وبه نأخذ وقد روينا هذا القول أيضا عن أبي حنيفة ، وعن محمد بن الحسن من غير هذا الوجه ، وقد روي مثل ذلك أيضا عن مالك بن أنس .

حدثنا عبيد بن محمد البزار ، قال حدثنا أحمد بن صالح ، قال : قرأت على ابن قانع ، قال قال مالك : يخطب إمام الحج ثلاث خطب : خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة يوم عرفة قبل الظهر ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما :

1367 - قد حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي ، قال حدثنا إبراهيم بن الجراح ، قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في الحج ثلاث خطب ؛ خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة عشية عرفة ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر .

[ ص: 122 ] ولم نسمع هذا الحديث من غير هذه الجهة .

ويقول بعضهم : يخطب إحداهن قبل التروية ارتفاع النهار خطبة واحدة لا يجلس فيها ، ويخطب إحداهن يوم عرفة بعد زوال الشمس قبل أن يصلي الظهر ، ويجعلها خطبتين ، ويجلس بينهما يفعل في خطبة الجمعة ، ويخطب إحداهن يوم النحر حيث يرمي جمرة العقبة ضحوة ، خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال بهذا القول منهم : زفر بن الهذيل فيما ذكره لنا محمد بن العباس ، عن الجعفي ، عن الحسن ، عن زفر .

وكان بعضهم يقول : هي أربع خطب ، فخطبة منهن يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة يأمرهم فيها بالغدو من الغد إلى منى . وخطبة أخرى يوم عرفة بعد الزوال ، وخطبة أخرى بعد الظهر يوم النحر ، يعلم الناس فيها النحر ، ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له ، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله عز وجل ، وطاعته واتباع أمره ومن قال ذلك منهم الشافعي ، ذكره لنا عنه المزني ولا نعلم لأهل العلم في الخطب في الحج قولا إلا هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها عنهم .

فأما الخطبة الأولى ، وهي المختلف في موضعها التي قال أهل القول الأول : إنها قبل التروية بيوم ، وقال أهل القول الثاني : إنها يوم التروية ضحى ، فإن الذين جعلوها يوم التروية ضحى شبهوه بخطبتي العيدين : الفطر ، والنحر ، وقالوا : وجدناها في الصدر الأول من النهار ، فجعلنا هذه كذلك .

وكان من الحجة عليهم لأهل القول الآخر ، أن خطبتي العيدين قد جعل لهما صلاتان ، ولم تجعل هذه كذلك ، إذ كانت لم تجعل لها صلاة قبلها ، ولا بعدها وكانت خطبة عرفة قد أجمع على أن وقتها بعد الزوال في الصدر الآخر من النهار ، وهي من خطب الحج ، فكان القياس على ذلك أن تكون هذه الخطبة التي هي من خطب الحج بخطبة عرفة التي هي من خطب الحج ، أشبه ، وأن يكون وقتها لوقتها ولما كانت الخطبة التي قبل عرفة في وقتها بخطبة عرفة أشبه في وقتها ، وانتفى أن تكون في الصدر الأول من النهار ، واستحال أن يجعل يوم التروية بعد الظهر ، إذ كان لا يتهيأ للإمام أن يخطبها بمكة ، وقد صلى صلاة الظهر بمنى ، ثبت أن القول فيها كما قال الآخرون الذين جعلوها قبل التروية بيوم ، وإذ كان [ ص: 123 ] لا قول فيها غير هذين القولين ، فلما انتفى أحدهما ثبت الآخر فهذا حكم الخطبة التي قبل عرفة من خطب الحج .

وأما الخطبة الثانية من خطب الحج فلا يختلفون أنها في يوم عرفة ، وأنها بعد الزوال كما ذكرنا فيها ، غير أنهم اختلفوا في تقديم الأذان عليها ، وفي تقديمها على الأذان ، وفي ابتداء الإمام إياها مع أحد المؤذنين في الأذان ، فأما أبو حنيفة فكان يقول في ذلك فيما حدثنا سليمان بن شعيب ، عن أبيه عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، قال : قلت له : أرأيت الإمام كيف يصلي الظهر والعصر بعرفة ؟ وكيف يخطب ؟ وكيف يصنع ؟ قال : يصعد المنبر ، ويؤذن المؤذن بالظهر والإمام على المنبر ، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام ، فخطب ، فحمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، وهلل ، وكبر ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس ، وأمرهم بما يحق عليهم ، ونهاهم عما نهاهم الله عز وجل عنه ، ثم دعا الله بحاجته ، ثم نزل ، ثم أقام المؤذن ، ولم يحك في ذلك خلافا .

وأما جعفر بن أحمد بن الوليد ، فحدثنا عن بشر بن الوليد الكندي ، قال قال أبو يوسف : أرى للإمام أن يخطب في الحج ثلاث خطب : إحداهن قبل التروية بيوم بعد الظهر ، يخبرهم فيها بمناسك حجهم ، ويخبرهم عن فضل الحج ، ويأمرهم بالذي يلزمهم فيه ، وينهاهم عما لا ينبغي لهم فيه والخطبة يوم عرفة كان أبو حنيفة يقول : فيها يصعد الإمام يوم عرفة ، ثم يؤذن المؤذن كأذان الجمعة ، ويخطب فيها كخطبة الجمعة ، فإذا نزل عن المنبر أقام قال : وقال أبو يوسف : سمعت بعض مؤذني عرفة ، يقول : كنا نؤذن بعدما يخطب الإمام صدرا من خطبته ليس بين يديه .

وأما أحمد بن أبي عمران فذكر لنا هذه الرواية أيضا عن أبي يوسف ، قال : وقال أبو يوسف : سألت عن ذلك بعض مؤذني مكة ، فأخبروني أنهم أدركوا آباءهم على ذلك في تقدم الإمام في الخطبة المؤذنين في الآذان ، وأن آباءهم أخبروهم أنهم أدركوا الناس على ذلك وأن أبا يوسف رجع عن قول أبي حنيفة إلى هذا القول ، وأن أبا يوسف قد كان قال مرة : يبتدئ الإمام الخطبة والمؤذن الأذان معا كمثل ما حكينا عن الشافعي في ذلك .

[ ص: 124 ] ولو خلينا والقياس لكان القول في ذلك عندنا كما قال أبو حنيفة ، ولكانت خطبة يوم عرفة كخطبة الجمعة ، إذ فيها الجلوس كما في خطبة الجمعة ، ولكنا وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خلاف هذا القول ، وليس لأحد التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك :

1368 - أن يحيى بن عثمان ، وروح بن الفرج ، جميعا قد حدثانا ، قالا : حدثنا يوسف بن عدي الكوفي ، قال حدثنا عبد الرحيم بن سليمان الرازي ، عن محمد بن علي وهو السلمي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين زالت الشمس ، فوقف بعرفة ، فقال : إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت قال : اللهم اشهد ، وقال مع ذلك قولا كثيرا ، وأذن المؤذن ، ثم أقام الظهر بعد الخطبة .

1369 - وأن الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، في حديثه في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذا سواء ، غير أنه قال : ثم أذن بلال ، ثم أقام ، فصلى الظهر بعد الخطبة .

وحديث حاتم في ترك قوله : بعد الخطبة ، أشبه عندنا من حديث محمد بن علي في قوله : بعد الخطبة ، لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأذان يكون بعد الفراغ من الخطبة ، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه خطبة عرفة قد ذكرناها أيضا بما قد روي فيها ، وبما قد قاله أهل العلم فيها ، والله نسأله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد .

ثم اعتبرنا هذه الزيادة التي في حديث محمد بن علي ، عن جعفر بن محمد بن علي ، عن حاتم بن إسماعيل في حديثه ، عن جعفر بن محمد وهي قوله : " ثم أذن بلال ، ثم أقام [ ص: 125 ] الظهر بعد الخطبة ، فوجدناه محتملا لأن يكون أراد بالإقامة أنها كانت بعد الخطبة ، وإن كان الأذان قد كان في الخطبة ، فلم يخرج ذلك من قول أبي يوسف الذي ثبت عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية