أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وينبغي للحاج أن تكون إفاضته من عرفة إذا غربت الشمس ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل فيها .

1400 - حدثنا أبو بكرة ، قال حدثنا أبو أحمد ، قال حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فقال : هذه عرفة ، وهذا الموقف ، ثم أفاض حين غابت الشمس .

وفي حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله الذي قد ذكرناه في هذا الباب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إفاضته من عرفة ما يوافق هذا المعنى أيضا وقد روي عن طاوس في ذلك ما :

1401 - قد حدثنا يونس ، قال أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل غرو الشمس ويدفعون من مزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأخر الله عز وجل تلك ، وقدم هذه ، أخر الدفع من عرفة إلى غروب الشمس ، وقدم الدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس وهذا قول أهل العلم جميعا ، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافا .

وأما قوله عز وجل : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ، فإنه لم يبين لنا في كتابه أن بين عرفة وبين المشعر الحرام فاصلا من مشاعر الحج ، وبينه لنا في سنة رسوله صلى [ ص: 142 ] الله عليه وسلم كما :

1402 - قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال حدثنا جعفر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، في حديثه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة أردف أسامة خلفه ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شنق القصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، لم يصل بينهما شيئا ، ثم اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بنداء وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه ، فحمد الله جل وعز ، وهلله ، وكبره ، فلم يزل واقفا - أظنه قال - حتى أسفر ، جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس .

ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة إلى المزدلفة ، وأنه بات بالمزدلفة حتى أصبح وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم في أمر مزدلفة ما :

1403 - قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال حدثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع ، فقلت : يا رسول الله ، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي ؟ فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ، وقد وقف معنا قبل ذلك ، وأفاض من عرفات ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

1404 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

1405 - وما قد حدثنا روح بن الفرج ، قال حدثنا حامد بن يحيى قال حدثنا [ ص: 143 ] سفيان ، قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، وزكرياء ، عن الشعبي ، وداود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : سمعت عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي ، يقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزدلفة ، فقلت : يا رسول الله ، جئت من جبلي طيء ، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي ، وأنضيت راحلتي ، وما تركت جبلا من هذه الجبال إلا وقد وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد معنا هذه الصلاة ، صلاة الفجر بالمزدلفة ، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

قال سفيان : وزاد زكرياء فيه - فكان أحفظ الثلاثة لهذا الحديث - قال ، فقلت : يا رسول الله ، أتيت هذه الساعة من جبلي طيء قد أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، فهل لي من حج ؟ فقال : من شهد معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى يفيض ، وقد كان وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه . قال سفيان : وزاد داود بن أبي هند ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين برق الفجر ، ثم ذكر الحديث .

1406 - وما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال حدثنا عبد الغفار بن داود الحراني ، قال حدثنا موسى بن أعين ، عن مطرف بن طريف ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أحفيت وأتعبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدرك جمعا ، والإمام واقف فوق مع الإمام ، ثم أفاض مع الناس ، فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك ، فلا حج له .

1407 - وما قد حدثنا محمد بن العباس اللؤلؤي ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا محمد بن حازم ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع ، يعني المزدلفة ، فقلت : يا رسول الله ، أنضبت راحلتي [ ص: 144 ] وأتعبت نفسي ، ولم يبق جبل من جبال عرفة إلا وقد وقفت به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاتنا هذه ، وقد كان أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

ففي حديث عروة بن مضرس هذا توكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مزدلفة فعقلنا بذلك أنها من شعائر الحج وقد روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مزدلفة أيضا ما :

1408 - قد حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن الديلي ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات ، فأقبل أناس من أهل نجد ، فسألوه عن الحج ، فقال : الحج يوم عرفة ، ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج .

ففي هذا الحديث توكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جمع كنحو توكيد أمرها في حديث عروة بن مضرس الذي ذكرناه . غير أن يزيد بن سنان :

1409 - قد حدثنا ، قال حدثنا محمد بن كثير ، قال أخبرنا سفيان الثوري ، قال : أخبرني بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فجاء أناس أو نفر من نجد ، فأمروا رجلا فنادى : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فأمر رجلا فنادى : الحج يوم عرفة ، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه .

فلم يكن المقصود بالمجيء إليه في هذا لليلة مزدلفة في هذا الحديث ، مزدلفة ولا غيرها وقد يحتمل أن يكون المقصود إليه بالمجيء في تلك الليلة مزدلفة كما في حديث علي [ ص: 145 ] بن معبد ، عن يعلى بن عبيد الذي ذكرنا ويحتمل أن تكون عرفة ، فلا يكون للمزدلفة في حديث عروة بن مضرس الذي روينا حكم . فنظرنا في ذلك ، فوجدنا أبا بكرة بكار بن قتيبة :

1410 - قد حدثنا ، قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال حدثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فجاء نفر من أهل نجد ، فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ قال : الحج عرفات ، من وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه .

فكان المقصود بالمجيء إليه ، والوقوف به في هذا الحديث في ليلة مزدلفة ، عرفة ، لا مزدلفة ، فقد اضطرب علينا حديث بكير بن عطاء هذا من رواية سفيان الثوري على ما ذكرنا ثم نظرنا فيه من رواية شعبة ، عن بكير بن عطاء ، كيف هو ؟ فوجدنا علي بن معبد :

1411 - قد حدثنا ، قال حدثنا شبابة بن سوار ، قال حدثنا شعبة ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة أو عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه .

وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد الليلة خاصة ، لأنه لو كان أراد الليلة خاصة لكان المسلمون فيها سواء ، ولكنه أراد مفعولا فيها فلم يكن في حديث شعبة هذا ما يدلنا عليه ما هو ، فلم نجد فيما ذكرناه من حديث عبد الرحمن هذا ما يدلنا على توكيد أمر مزدلفة ، إلا ما في حديث يعلى بن عبيد خاصة مما قد خالفه فيه غيره ممن ذكرناه ، ثم رجعنا إلى حديث عروة بن مضرس ، فوجدنا الذي فيه من حديث عبد الله بن أبي السفر ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وزكرياء بن أبي زائدة ، ومجالد بن سعيد ، وداود بن أبي هند ، عن الشعبي قريبا بعضه من بعض ووجدنا الذي فيه من حديث مطرف بن طريف زائدا على ما في أحاديث الخمسة الذين ذكرنا ، لأن في حديثه : ومن لم يدرك ، يعني الوقوف بمزدلفة ، فلا حج له فكان ذلك إن حمل على ما يحمله عليه قوم من كثرة عدد الرواة ، وأنه أولى مما به ينفرد به الواحد دونهم ، كان ما روى هؤلاء الخمسة في ذلك أولى [ ص: 146 ] مما تفرد به مطرف بن طريف وإن حمل ذلك على التكافئ ، فجعل المنفرد عن هؤلاء الخمسة ، إذ كان بينا في حديثه ، مكافئا لهؤلاء الخمسة ، فإنه قد يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن لم يدرك ، يعني مزدلفة : فلا حج له " أي لا حج له متكامل الأسباب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا وضوء لمن لم يسم " ليس على معنى أنه لا يكون بالوضوء الذي لا يسمي عليه طاهرا ولا منتقلا من حال حدث إلى حال طهارة ، ولكن على معنى أنه لا يكون به متوضئا الوضوء المتكامل الأسباب المأمور بها فيه وكما قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قدم ثقله فلا حج له .

1412 - حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن عمرو بن شرحبيل ، أن عمر ، قال : من قدم ثقله فلا حج له .

فلم يكن ذلك منه عندنا - والله أعلم - على أنه يكون بتقديمه ثقله في معنى : من لم يحجج ، وكيف يكون ذلك كذلك وقد حج قبل ذلك وحل من حجه ؟ ولكنه في معنى : من حج الحج الناقص عما ينبغي أن يكون يعقبه في وقت الشخوص عن مكة إلى حيث يريد الحاج ، وسنذكر فيما بعد هذا الموضع من كتابنا هذا ، حكم الوقوف بمزدلفة ، وهل هو في حكم الوقوف بعرفة في الحج كما يقول بعض الناس ، أو هو على خلاف ذلك إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية