أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقال بعضهم : من رمى في يوم النحر حل له كل شيء كان حراما بالحج إلا النساء ثم كان كذلك إن طاف بالبيت في بقية يوم النحر ، وإن لم يطف بالبيت حتى يخرج عنه يوم النحر عاد على حرمته الأولى ، وحرم عليه ما كان حل له برمية الجمرة وبحلقه رأسه ، وكان ما احتج به أهل هذا القول لقولهم هذا ما قد روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

1558 - حدثنا عبيد بن محمد البزاز ، قال حدثنا بكر بن خلف ، قال حدثنا ابن أبي عدي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة ، عن أبيه ، وعن أمه زينب ابنة أبي سلمة ، عن أم سلمة رضي الله عنها .

حدثناه جميعا عنها ، قالت : كانت ليلتي التي صير إلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر ، فصار إلى ، قالت : فدخل علىوهب بن زمعة ومعه رجل من آل أبي أمية متقمصين ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب : هل أفضت بعد ؟ [ ص: 198 ] قال : لا والله يا رسول الله قال : انزع عنك القميص ، فنزعه من رأسه ، ثم قال : ولم يا رسول الله ؟ قال : إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء ، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا بالبيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة .

قال أبو عبيدة : حدثتني أم قيس ابنة محصن ، وكانت جارة لهم ، قالت : خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر ، ثم رجعوا إلى عشاء وقمصهم على أيديهم يحملونها ، قالت : فقلت : أي عكاشة ، ما لكم خرجتم متقمصين ورجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها ؟ قال : خير يا أم قيس ، كان هذا يوما رخص لنا فيه ، إذا رمينا الجمرة حل لنا كل شيء حرمنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت ، فإذا أمسينا ولم نطف ، صرنا حرما كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة ، فأمسينا ولم نطف ، فصرنا حرما كما ترين .

1559 - حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال حدثنا ابن لهيعة ، قال حدثنا أبو الأسود ، عن عروة ، عن جدامة ابنة وهب وهي أخت عكاشة بن وهب ، أن عكاشة بن وهب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخا لها آخر ، جاءا لها حين غابت الشمس يوم النحر ، فألقيا قميصيهما ، فقالت : ما لكما ؟ فقالا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من لم يكن أفاض منكما فليلق ثيابه وكانوا قد تطيبوا ولبسوا الثياب .

ولما اختلفوا في هذا الباب كما ذكرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فرأينا الرجل إذا أحرم بالحج حرم عليه بإحرامه أشياء ، منها حلق رأسه ، فلا يزال كذلك حتى يرمي جمرة العقبة [ ص: 199 ] يوم النحر ، فإذا رماها حل له أن يحلق فدل إباحة الحلق له أن الحرمة التي كانت منعته من الحلق قد ذهبت قبل ذلك ، وأنه حلق حين حلق وهو حلال كما قال ابن عباس ، لا كما قال الآخرون ، وهذا قول قد روي عن أبي يوسف ، وإن كان المشهور عنه خلافه .

فإن قال قائل : لو كان كما ذكرت لكان لا معنى للحلق إذا كان الحاج قد صار حلالا ، برميه جمرة العقبة وإن لم يحلق ، إلا من النساء خاصة ولما كان للحلق الذي يفعله فضل على التقصير الذي يفعله مثله ، كما لا يفضل الحلال إذا حلق غيره من المحلين إذا قصروا .

قيل له : بل للحلق في هذا أكثر معنى ، وهو أفضل من التقصير للحاج بعد رميه جمرة العقبة ، لأنهما سبب من أسباب النسك يفعلان بعد الخروج من الإحرام وزوال الحرمة وارتفاعها ، لأنه قد رأينا بعض أسباب الحج يفعل بعد الخروج من الحج ، والدخول في الإحلال ، وهو طواف الصدر ، يفعله الحاج بعد خروجه من إحرامه ، لأنه شبيه لما كان فيه من إحرامه ، وإن كان تركه كان عليه الدم في تركه ، ولم يجعل في حكم الطواف الذي تركه الحلال عند خروجه من مكة ، ولم يكن محرما قبل ذلك فثبت بما ذكرنا ما روينا عن ابن عباس في هذا المعنى .

ثم رجعنا إلى قول الذين قالوا : يحل له إذا رمى وحلق كل شيء إلا النساء والطيب ، وإلى قول الذين قالوا : يحل له كل شيء إلا النساء خاصة ، فوجدناهم لا يختلفون أنه بعد رميه وحلقه في بقية يوم النحر حلال له اللباس ، وحرام عليه النساء ، وإنما يختلفون في حرمة الطيب ، هل هي باقية عليه كما كانت أو مرتفعة عنه ؟ فأردنا أن ننظر في حكم الطيب ، هل يشبه حكم النساء فيقطعه عليه ؟ أو يشبه حكم اللباس فيقطعه عليه ؟ فوجدنا الحاج إذا جامع قبل وقوفه بعرفة كان عليه دم ، وكان حجه فاسدا ، وكان عليه قضاء الحج من قابل ، وإذا لبس حينئذ كان عليه دم ، ولم يكن حجه فاسدا ، وإذا تطيب حينئذ كان عليه دم ، ولم يكن حجه فاسدا ، فثبت بذلك أن حكم الطيب بحكم اللباس فيما ذكرنا أشبه منه بحكم النساء ، فثبت بذلك قول الذين قالوا : يحل له مع اللباس الطيب كما حل له اللباس .

[ ص: 200 ] ثم رجعنا إلى قول الذين قالوا : إذا رمى الجمرة حل له كل شيء ما كان في يومه ذلك ، فإذا مضى يومه ذلك ، ولم يطف فيه بالبيت ، عاد حراما كما كان قبل ذلك . فلم نجد لأهل هذا القول معنى من طريق القياس ، فنذكره لهم ، وإنما وجدنا لهم في ذلك حديثي أم سلمة ، وأم قيس اللذين رويناهما عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب .

فكان حديث عائشة الذي رويناه عنها في هذا الباب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، فأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولم يستثن منه شيئا ، أولى عندنا ، فإن تكلم رجل في الحجاج بن أرطاة الذي دار عليه حديث عائشة هذا ، فلخصمه أن يتكلم أيضا في محمد بن إسحاق ، وعبد الله بن لهيعة اللذين دار عليهما حديث أم سلمة ، وأم قيس اللذين رويناهما في هذا الباب ، والكلام في كل واحد منهما أكثر من الكلام في الحجاج بن أرطاة ، لأن الحجاج إنما تكلم فيما أرسله ، فأما ما قال فيه : سمعت ، أو : أخبرني ، أو : حدثني ، فلم يتكلم في ذلك أحد ، وكل واحد من محمد بن إسحاق ، ومن عبد الله بن لهيعة فقد تكلم في كل حديثه .

التالي السابق


الخدمات العلمية