أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
فإن قال قائل : فقد رويتم عن عبد الله بن عمر في هذا الباب ، أنه قال : الحج والعمرة واجبان ، فسوى بينهما في الوجوب ، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس ، فلم يكن ذلك عنده ينفي وجوب العمرة ؟

قيل له : ما في قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل على أنها فريضة ، لأنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله ذلك أنها واجبة على جميع المسلمين وجوبا على ما يقوم به الخاص منهم كوجوب الجهاد عند الذين يوجبونه ، فإن كثيرا من أهل العلم منهم أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن كانوا يقولون : الجهاد واجب على المسلمين جميعا إلا أن من قام به منهم أجزأ ذلك عن بقيتهم ، وسقط به الفرض عنهم ، كوجوب الصلوات على الجنائز ، وغسل الموتى ، فذلك واجب في عينه على جميع المسلمين ، غير أن من قام به منهم سقط بذلك الفرض عن بقيتهم وكذلك ما خاطب به عمر بن الخطاب الصبي بن معبد في قوله : وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي ، وترك عمر الإنكار عليه ، ليس لأن عمر جعل وجوب العمرة كوجوب الحج ، ولكن على أنه جعل ذلك واجبا كوجوب الجهاد على المسلمين ، والدليل على ذلك من مذهبه فيه ما :

1601 - قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني سليمان الأعمش ، قال : سمعت إبراهيم ، يحدث عن عابس بن ربيعة ، عن عمر بن الخطاب ، قال : إذا حللتم السروج فشدوا الرحال للحج والعمرة ، فإنها أحد الجهادين .

أفلا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قرن العمرة بالحج ، وقال : فشدوا الرحال للحج والعمرة ، ثم قال : فإنها أحد الجهادين ، فشبهها خاصة بالجهاد الذي حكمه كما قد ذكرناه فيه من سقوط فرضه عن جميع الناس بقيام الخاص منهم .

1602 - وإذا إبراهيم بن مرزوق ، قد حدثنا ، قال حدثنا مكي بن إبراهيم ، قال حدثنا داود بن يزيد الأودي ، عن عامر ، عن جرير بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصيام رمضان .

[ ص: 216 ] 1603 - وإذا إبراهيم بن أبي داود ، قد حدثنا ، قال حدثنا علي بن عثمان اللاحقي ، قال حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال حدثنا الحجاج بن أرطاة ، قال حدثنا عثمان البجلي ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فسأله عن الإسلام ، فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره للناس ما تكره لنفسك .

1604 - وإذا يزيد بن سنان ، قد حدثنا ، قال حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، وإذا أبو أمية محمد بن إبراهيم ، قد حدثنا ، قال حدثنا أبو عاصم ، قالا : أخبرنا كهيمش ، عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن عبد الله بن عمر ، قال : حدثني عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل شديد سواد الشعر ، شديد بياض الثياب ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا نعرفه ، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع يده على فخذه ، ثم قال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال : نعم قال : صدقت .

1605 - وإذا يزيد بن سنان ، قد حدثنا ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري ، قال حدثنا حماد بن زيد ، قال حدثنا مطر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال حدثنا ابن عمر ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله ، غير أنه لم يقل في الحج : إن استطعت إليه سبيلا .

1606 - وإذا علي بن معبد ، قد حدثنا ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا أبو سنان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، قال : كنت أنا ويحيى بن يعمر [ ص: 217 ] جالسين في المسجد ، فجاء ابن عمر ، فأنشأ يحدث ، قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل حسن الوجه ، حسن اللمة ، طيب الريح ، حسن الثياب ، فسلم ، فقال : أدنو منك يا رسول الله ؟ قال : ادن ، قال : حيث أسألك عن شرائع الإيمان قال : تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتقوم رمضان ، وتحج البيت ، وتغتسل من الجنابة . قال : صدقت فعجبنا من قوله : صدقت .

1607 - وإذا الحسن بن الحكم الحيري الكوفي ، قد حدثنا ، قال حدثنا عفان بن مسلم ، قال حدثنا سليمان بن المغيرة ، قال حدثنا ثابت ، عن انس بن مالك ، قال : كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قال : وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أجرأ على ذلك منا .

قال : فجاء رجل ، فقال : يا محمد ، أتانا رسولك ، فزعم أنك تزعم أن الله عز وجل أرسلك قال : صدق .

قال : وزعم أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال : صدق قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا قال : صدق .

قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا .

قال : صدق .

قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ .

قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا

قال : صدق .

قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمر بهذا ؟ قال : نعم .

قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال : صدق .

[ ص: 218 ] قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

قال : فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ، ولا أنقص منهن شيئا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لئن صدق ليدخلن الجنة .


1608 - وإذا يوسف بن يزيد ، قد حدثنا ، قال حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، قال حدثنا مبارك بن سعيد النوري ، قال حدثنا سعيد بن مسروق ، عن أيوب يعني : ابن عبد الله بن مكرر ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله (ما) العمل الذي يدخلني الجنة ، وينجيني من النار ؟ فقال : لقد سألت عظيما ، وإنه ليسير : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان .

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في هذه الآثار بفرائض الإسلام التي بني عليها ، ولم يذكر في ذلك العمرة ، فدل ذلك أنها ليست فريضة كفرض الحج المذكور على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصلاة ، ومع صوم رمضان ، ومع ما ذكره في هذه الآثار التي ذكر فيها ما بني الإسلام عليه ، وما إذا أتى به الرجل ، وقصر عما سواه ، لم يمنعه ذلك من أن يكون قد أتى بما عليه من الفرائض ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال للرجل في حديث أنس بن مالك الذي روينا : لئن صدق ليدخلن الجنة .

فهذا حكم العمرة من طريق الآثار ، وليس فيما ذكرناه أيضا من قول زيد بن ثابت : نسكان أو صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، يريدها ويريد الحج ، ما يدل على وجوبها عنده ، لأنه لم يقل : نسكان واجبان ، ولا : صلاتان واجبتان .

فإن قال قائل : فما معنى قوله : نسكان ؟ قيل له : قد يكون النسك تطوعا ، وقد يكون فريضة ، فأما ما يكون تطوعا فما نسكه الناس مما يتقربون به إلى ربهم عز وجل من الهدي بالتطوع ، ومما سوى ذلك فإن قال : فقد قرن بينهما ، قال : الحج والعمرة نسكان أو صلاتان ، فدل ذلك على استواء حكمهما كان عنده ؟

[ ص: 219 ] قيل له : ما في ذلك دليل على استواء حكمهما كان عنده ، لأن الشيء قد يقرن بالشيء وحكمهما مختلف قال الله عز وجل ثناؤه : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ، والرفث يفسد الحج ، والجدال لا يفسده ، فقرن بين هذه الأشياء على اختلاف أحكامها في أنفسها والفرائض فإنما تعلم بالتوقيف عليها ، فلما لم يقف على فرض الله عز وجل العمرة على عباده لم يجعلها فريضة عليهم .

فقال قائل : القياس يوجب أنها فريضة قال : وذلك أنا لم نر شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض ، من ذلك الحج ، يتطوع به ، وله أصل في الفرض ، ومن ذلك الصلاة ، يتطوع بها ، ولها أصل في الفرض ، ومن ذلك الصدقة ، يتطوع بها ، ولها أصل في الفرض ، ومن ذلك الصيام ، يتطوع به ، وله أصل في الفرض .

قال : فعقلنا بذلك أن العمرة لما كان يتطوع بها لم يكن ذلك إلا ولها أصل في الفرض .

فقيل لقائل هذا القول : فقد رأينا الاعتكاف يتطوع به ، ولا أصل له في الفرض ، ففسد بذلك عليه ما احتج به . وكان الذي جاء به مما ذكرناه عنه مقلوبا ، وإنما هو ما يتطوع به ، فقد يكون له أصل في الفرض ، وقد لا يكون له أصل في الفرض ، وما له أصل في الفرض فجائز أن يتطوع به كالصلاة وكالصدقة وكالحج ، فهذا الذي ذكرنا لا شيء فيه يوجب فرض العمرة .

وممن كان يذهب إلى أن العمرة من التطوع الذي لا ينبغي تركه ، أبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأما الشافعي فقد كان يذهب إلى أنها واجبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية