أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قول الله تعالى : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل )

قال الله - عز وجل - : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) ، فأحطنا علما أنه لم يرد به الصلاة ، وإنما أراد به موضع الصلاة ، فقوله : ( إلا عابري سبيل ) ولا يكون في [ ص: 114 ] الصلاة بعينها عبور سبيل . وقد روي عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد دل على هذا المعنى ، فمما روي عنهم في ذلك ما :

131 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، قال : " لا تدخل المسجد وأنت جنب ، إلا وأنت عابر سبيل " .

فلم يذكر ابن عباس في هذا التأويل أنه أريد به مسافر دون مقيم ، ولا مقيم دون مسافر فنظرنا في ذلك فوجدناه قد روي عنه في غير هذا الحديث أنه عنى به المسافر .

132 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أبي محلز ، عن ابن عباس ، في قوله - عز وجل - : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، قال : " هو المسافر .

133 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي ، عن الحسن بن أبي جعفر الأزدي ، عن سلم العلوي ، عن أنس بن مالك ، في قوله : ( ولا جنبا إلا عابري ) ، قال : " يجتاز ولا يجلس " .

وهذا عندنا على الضرورة منه إلى ذلك وعلى ألا طريق له إلى ما يريد إلا فيه كما قد روي في ذلك عن إبراهيم .

134 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، قال : إذا لم يجد طريقا غيره .

وقد يكون ذلك أيضا على الطريق إلى موضع الماء الذي يغتسل به حتى يصلي كما قد روي فيه عن مجاهد ، فإنه .

135 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، قال : مسافرين لا يجدون ماء [ ص: 115 ] .

ولما كانت المساجد إنما بنيت للصلاة ، ولقراءة القرآن ، ولذكر الله - عز وجل - فيها ، لا لما سوى ذلك من أفعال الناس ، ونهيت الحائض عن دخول المسجد ، إذ لا تستطيع أن تفعل فيه ما بنيت المساجد من أجله ، حتى قيل لها إذا كانت حاجة فحاضت : افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت .

وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

136 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقال : " ما يبكيك ، لعلك نفست " فقلت : نعم قال : " فإن هذا أمر كتبه الله - عز وجل - على بنات آدم ، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " .

137 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وهي تبكي ، فقال : " ما لك تبكين ؟ " قالت : أبكي لأن الناس حلوا ولم أحلل ، وطافوا بالبيت ولم أطف ، وهذا الحج قد حضر كما ترى ، فقال : " هذا أمر كتبه الله - عز وجل - على بنات آدم ، فاغتسلي وأهلي بالحج ، ثم حجي واقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي " .

قال أبو جعفر : فمنعت من الطواف بالبيت لأنها ليست ممن يدخل المسجد ، وخولف بين ذلك وبين سائر أفعال الحج التي تفعل في غير المسجد ، فلما كانت الحائض كما ذكرنا في المنع من دخول المسجد كان الجنب في ذلك مثلها ، وكان الذي أبيح له من عبور السبيل في الآية التي تلونا عند الضرورة إلى دخول المسجد والحاجة منه إلى ذلك ، كهو إذا أجنب خارج المسجد ، ولا يجد ماء إلا من بئر في المسجد ، فيتيمم ليدخل المسجد طاهرا بذلك التيمم طهارة ضرورة حتى يصل إلى الماء ، فيغتسل به الغسل الذي يطهره من جنابته وكذلك لو كان الماء في غير المسجد ، ولا طريق له إليه إلا من المسجد لم يبح له أن يجتاز في المسجد إلا على طهارة بالتيمم الذي ذكرنا ليكون مجتازا في المسجد على طهارة تيمم ، لا على جنابة لم يتطهر منها ، وهذا عندنا معنى حديث روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا المعنى [ ص: 116 ] .

138 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن علي ، ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، " قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي " .

هكذا وجدنا هذا الحديث في كتابنا ، وإنما هو عندنا فيتيمم ، ثم يدخل المسجد فيصلي ، ولولا أن الآثار التي ذكرناها في الباب الذي ذكرناه قبل هذا الباب في قول الله - عز وجل - ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) بينت أن المراد به الصلاة في عينها لكان ظاهر الآية يدل على أن المراد بالصلاة المذكورة فيها هو موطنها الذي يصلى فيه ، وهو المساجد ، لأنه قال - عز وجل - : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) ، ( حتى تعلموا ما تقولون ) إذا كنتم سكارى و ( حتى تغتسلوا ) إذا كنتم جنبا إلا عابري سبيل في الجنابة .

وهذا الذي ذكرنا في تيمم الجنب عند إرادته دخول المسجد للضرورة ، قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وأكثر أهل العلم سواهم .

وقد قال بعضهم ممن لم نجد عن المتقدمين ما يوافق ما قال من ذلك أن معنى قوله - عز وجل - : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) أن معنى ذلك على التقديم والتأخير ، كأنه قال - عز وجل - : ولا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل يعني : إذا كانوا أبناء سبيل مسافرين ، ثم بين ما عليهم إذا كانوا كذلك بقوله - عز وجل - : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) الآية وهذا التأويل بعيد في المعنى ، والمتقدمون كلهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأنس ، ومن تبعهم ممن ذكرنا في هذا الكتاب على خلاف هذا التأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية