أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) الآية .

قال الله جل ثناؤه : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) فكانت الهاء التي في دخله عائدة على البيت وكان المراد بالبيت في هذا هو الحرم كله ، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك علمناه وكان ذلك عندهم كقوله عز وجل : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) فكان الخطاب مقصودا به إلى المسجد الحرام والمراد به الحرم كله ، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك علمناه وقد ذكرنا ذلك وما قاله أهل العلم فيه ، وما قد روي فيه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن غيرهم من تابعيهم في كتاب الطهارات من كتبنا هذه .

وكان معنى هذه الآية عندنا - والله أعلم - أنه من أصاب حدا لله عز وجل أو لعباده ، ثم دخل الحرم أمن من ذلك الحد ، فلم يقم عليه ما كان مقيما في الحرم ، أن يخرج من الحرم ، فيقام عليه ذلك الحد في الحل وقد روي ذلك عن عبد الله بن عباس في تأويل هذه الآية كما :

1773 - قد حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة ، قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال حدثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : من أصاب حدا في [ ص: 311 ] الحرم أقيم عليه ، وإن أصابه خارج الحرم ، ثم دخل الحرم ، لم يكلم ، ولم يجالس ، ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد .

1774 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : إذا أحدث الرجل ، ثم دخل الحرم ، لم يؤو ، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعم ، ولم يسق حتى يخرج من الحرم ، .

1775 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكر مثله سواء .

1776 - وكما حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال حدثنا هشيم ، قال أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، فيمن أحدث حدثا في غير الحرم ، ثم جاء إلى الحرم ، لم يكلم ، ولم يبايع ، ولم يؤو حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج من الحرم أخذ ، فأقيم عليه ما عليه ، وما أحدث في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء .

1777 - وكما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، قال حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : سعيد مولى معاوية ، وأصحاب له بالطائف متحصنين في قلعة ، فاستنزلوا منها ، فانطلق بهم إلى عبد الله بن الزبير وهو بمكة ، فأرسل إلى ابن عباس ، فقال : ما ترى في هؤلاء النفر ؟ قال : أرى أن تخلي سبيلهم ، فإنهم قد أمنوا إذ أدخلتهم الحرم فقال : لا ، نخرجهم من الحرم ثم نصلبهم ؟ قال : فهلا قبل أن تدخلهم ؟ .

فأخرجهم ابن الزبير ، فصلبهم ، فقال ابن عباس : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما [ ص: 312 ] هجته حتى يخرج منه .

فهذا عبد الله بن عباس قد ذهب في تأويل قوله جل وعز : ( ومن دخله كان آمنا ) ، إلى ما حكيناه عنه في ذلك ، وجعل ذلك على الحرم كله ، لا على البيت خاصة ، وخالف بين المصيب للذنوب الموجب الحد عليه في الحرم ، وبين المصيب له في غير الحرم اللاجئ إلى الحرم بعد ذلك وكان الداخل في الحرم إذا دخله خائفا مما كان يخاف ، لأنه إنما يأمن الخائف ومن دخله قبل إصابته الذنب ، ثم أصاب فيه الذنب ، فقد دخله آمنا غير خائف ، فلم يؤمنه دخوله الحرم من شيء كان منه خائفا قبل دخوله إياه فإذا أصاب فيه الذنب بعد ذلك كان بإصابته ذلك الذنب فيه منتهكا لحرمته ، ومستحلا لها وكان لغيره من الآمنين في غير الحرم إذا أصابوا ذنبا حيث هم مما سوى الحرم .

وقد : تابعه عبد الله بن الزبير في تأويل هذه الآية حين لم يقتل سعيدا ولا أصابه في الحرم حتى أخرجهم منه إلى الحل فصلبهم فيه وقد وافقه على ذلك أيضا عبد الله بن عمر كما :

1778 - قد حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال حدثنا الحجاج ، قال : حدثني عطاء ، أن ابن عمر ، وابن عباس ، قالا في قوله عز وجل : ( ومن دخله كان آمنا ) ، قالا : الرجل يصيب الحد ثم يدخله فلا يبايع ، ولا يجالس ، ولا يؤوى ، ولا يكلم حتى يخرج منه ، فيقنع فيؤخذ فيقام عليه الحد .

1779 - وكما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال حدثنا هشيم ، قال حدثنا الحجاج ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته .

وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد يقولونه في ذلك ، غير أنهم [ ص: 313 ] كانوا يجعلون ذلك أمانا في كل حد يأتي على النفس من حدود الله عز وجل ، ومن حدود عباده مثل أن يزني وهو محصن ، فيجب عليه الرجم ، فيلجأ إلى الحرم فيدخله ، ومثل الذي يرتد عن الإسلام ، فيجب عليه القتل ، فيلجأ إلى الحرم فيدخله ، ومثل الذي يقطع الطريق على المسلمين ، فيجب عليه القتل ، فيلجأ إلى الحرم فيدخله ، ومثل أن يقتل رجلا عمدا ، فيجب عليه القصاص في ذلك ، فيلجأ إلى الحرم فيدخله ، وما أشبه ذلك من الوجوه التي لله عز وجل ، أو لعباده مما يجب بها سفك الدماء ولا يجعلون ذلك على الحدود التي لا تأتي على النفس من حدود الله عز وجل كالقطع في السرقات ، ولا من الحقوق التي للعباد مثل قطع الأيدي ، أو ما سواها من الأعضاء قودا ، ولا مثل التعزير بالأقوال الموجبة بالعقوبات ، ولا بما يشبه كل واحد من هذين المعنيين من حقوق الله عز وجل ، ومن حقوق عباده كما حدثنا محمد بن العباس ، قال حدثنا علي بن معبد ، قال أخبرنا محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، فذكر هذه المعاني التي ذكرناها كلها بأن كان قد زدنا في ألفاظها ما كشفنا به وجوهها مما لم يخرج به من معانيها ولم يحك في ذلك خلافا بينهم وقد ذكر لنا محمد بن العباس ، عن يحيى بن سليمان ، عن الحسن بن زياد ، عن أبي حنيفة ، وعن زفر ، مثل ذلك ، وعن أبي يوسف في هذه الرواية أنه كان يقول في ذلك : إن الحرم لا يجير ظالما ، وإن من لجأ إلى الحرم أقيم عليه حده الذي كان وجب عليه قبل أن يلجأ إلى الحرم وكان قول أبي حنيفة ، وزفر ، ومحمد في ذلك أولى عندنا من قول أبي يوسف الذي حكاه عنه الحسن ، وإن كان محمد بن الحسن قد خالفه في ذلك ، فروى عن أبي يوسف خلافه لما قد روي عن عبد الله بن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير في ذلك على ما قد ذكرناه عنهم في هذا الباب ، ولأنا لم نجد عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل هذه الآية التي تلونا غير التأويل الذي ذكرناه عن عبد الله بن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية