أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وكان من الحجة للذين قالوا : إن للمطلقة المبتوتة السكنى والنفقة جميعا ، ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مما :

1863 - حدثنا به سليمان بن شعيب ، ونصر بن مرزوق ، قالا : حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن الشعبي ، أن فاطمة ابنة قيس طلقها زوجها طلاقا باتا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا نفقة لك ولا سكنى .

قال : فأخبرت بذلك النخعي ، فقال قال عمر بن الخطاب ، وأخبر بذلك : لسنا بتاركي آية من كتاب الله عز وجل ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لعلها أوهمت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها : السكنى والنفقة .


1864 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، فذكر بإسناده مثله .

فإن قال قائل : هذا الخبر عن عمر منقطع قيل له : وما يدفع انقطاعه أن يكون حجة إن كان من شأن إبراهيم أن لا يقطع إلا ما حدثه به غير واحد ، ولزمت به الحجة عنده كما روي لنا عنه مما :

1865 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا الزهراني ، قال حدثنا شعبة ، [ ص: 352 ] عن الأعمش ، قال : قلت لإبراهيم : إذا حدثتني فأسند فقال : إذا قلت : قال عبد الله ، فلم أقل ذلك حتى حدثنيه غير واحد ، وإذا قلت : حدثني فلان ، عن فلان ، فهو الذي حدثني .

فدل ذلك على أن مذهب إبراهيم كان فيما ذكره عن أحد من الصحابة ممن لم يلقه ، كما كان مذهبه فيما رواه عن عبد الله كذلك وقد روي عن عمر في هذا المعنى من غير حديث حماد بن أبي سليمان ما :

1866 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا محمد بن كثير ، قال حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن الشعبي ، عن فاطمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها ثلاثا ، سكنى ولا نفقة فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال : قد رفع ذلك إلى عمر ، فقال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لها السكنى والنفقة .

فهذا مثل ما روى حماد عن الشعبي غير ذكر عمر أن لها السكنى والنفقة ، مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن فيه ما يدل على حديث حماد من تلك الزيادة لقوله في حديث حماد بن سلمة هذا : وسنة نبينا ولا يكون ذلك إلا وما حكته فاطمة عنده مخالف لكتاب الله عز وجل ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي من غير حديث حماد بن سلمة في ذلك عن عمر وعبد الله من قولهما ما :

1867 - حدثنا فهد بن سليمان ، قال حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال حدثنا أبي ، قال حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عمر ، وعبد الله ، أنهما كانا يقولان : المطلقة لها السكنى والنفقة .

وكان الشعبي يذكر عن فاطمة ابنة قيس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنها ليس لها نفقة ولا سكنى .

1868 - حدثنا نصر بن مرزوق ، قال حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن الأسود ، أن عمر بن الخطاب ، وعبد الله [ ص: 353 ] بن مسعود ، قالا في المطلقة ثلاثا : لها السكنى والنفقة .

فهذا عمر وعبد الله قد جعلا للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة بعد علم عمر بحديث فاطمة الذي ذكرنا ، ووقوفه على أنه لم يلزمه القول به ، ومخالفته إياه إلى ما ذهب إليه ، وإعلامه أن فيما روت فاطمة من ذلك اختلافا لكتاب الله عز وجل ، ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ذكرنا عنه في هذه الآثار الأول .

وقد روي عنه في هذا المعنى من وجه آخر متصل الإسناد .

1869 - كما حدثنا بكار بن قتيبة ، قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، قال حدثنا عمار بن زريق ، عن أبي إسحاق ، قال : كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم ، ومعنا الشعبي ، فذكروا المطلقة ثلاثا ، فقال الشعبي : حدثتني فاطمة بنت قيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لها : لا سكنى لك ولا نفقة .

قال : فرمى الأسود بحصاة ، ثم قال : ويلك تحدث بمثل هذا الحديث ، قد رفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فقال : لسنا بتاركي كتاب الله عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري ما لعلها تحدث ، قال الله عز وجل : (
لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ) ، الآية .


وقد أنكر حديث فاطمة هذا غير عمر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنكره عمر ، منهم : أسامة بن زيد ، وكان إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئا رماها بما كان في يده .

1870 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا شعيب بن الليث ، قال حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : كانت فاطمة بنت قيس ، تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لها : اعتدي في بيت ابن أم مكتوم .

[ ص: 354 ] وكان محمد بن أسامة يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئا رماها بما كان في يده .

فهذا أسامة قد كان يبلغ به إنكاره على فاطمة روايتها هذا الحديث إلى أن يرميها بما يكون في يده ، وفي هذا إنكاره عليها ومعاقبته لها برميه إياها بما كان يرميها مما يكون في يده ، دليل على أنه لم يفعل ذلك بها إلا عن وقوف منه أن ما روت في ذلك مخالف لما عليه حكم المطلقات المبتوتات وقد روي عن عائشة في خبر فاطمة .

1871 - ما حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي ، قال حدثنا حسين بن عبد الأول الأحول ، قال حدثنا محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : ذكر لعائشة أمر فاطمة ، فقالت : إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن ام مكتوم لسوء خلقها .

1872 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا أنس بن عياض الليثي ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد ، وسليمان بن يسار ، يذكران ، أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق ابنة عبد الرحمن بن الحكم ، فأنقلها عبد الرحمن ، فأرسلت عائشة إلى مروان وهو أمير المدينة أن اتق الله ، واردد المرأة إلى بيتها فقال مروان في حديث سليمان : إن عبد الرحمن غلبني ، وقال في حديث القاسم : أما بلغك شأن حديث فاطمة ابنة قيس ؟ فقالت عائشة : لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة فقال مروان : إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر .

1873 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، قال حدثنا شعبة ، قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، قال قالت عائشة : ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث ، يعني قولها : لا نفقة ولا سكنى .

[ ص: 355 ] فهذه عائشة قد أخبرت أن السبب الذي به انتخب فاطمة الانتقال في عدتها هو سوء خلقها ، وفي قول عائشة لمروان : لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة ، دليل على أن حديث فاطمة عندها ليس بسنة مستعملة في سائر المطلقات المبتوتات سواها ، وأن ذلك إنما كان لفاطمة لأمر خاص فيها وهو سوء خلقها ، وعلى أن سوى من طلق من المطلقات المبتوتات كان [عند . . . ] المبينة المستثناة في الآية الممنوع فيها من إخراج المطلقات من بيوتهن بقول الله عز وجل : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) كما كان ابن عباس يذهب في أنها البذاء من المطلقة المبتوتة على الزوج المطلق لها .

1874 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو عامر ، قال حدثنا سليمان بن بلال ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن قوله عز وجل : ( ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال : الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم .

وقد روي عن ابن المسيب في شأنها هذا المعنى .

1875 - كما حدثنا أبو بشر الرقي ، قال حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : أين تعتد المطلقة ثلاثا ؟ فقال : في بيتها فقلت : أليس قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنة قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ؟ فقال : تلك امرأة أفتنت الناس ، واستطالت على أحمائها ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وكان رجلا مكفوف البصر .

[ ص: 356 ] وقد روي عن أبي سلمة أو عن الزهري في ذلك ما :

1876 - حدثنا نصر بن مرزوق ، وابن أبي داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن فاطمة ، أخبرته ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ، فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث به من خروجها قبل أن تحل .

فهذا أبو سلمة أو الزهري يخبر أن الناس قد أنكروا على فاطمة ما أخبرت به من ذلك ، وذلك لا يكون إلا إخبارا عن الناس الذين هم حجة ، ويجب بإنكارهم عليها ما روت من ذلك تركه والأخذ بغيره .

وقد روي عن عائشة من وجه غير ما تقدم فيما رويناه عنها في هذا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة كان بالخروج لمعنى لا يكون لغيرها من المطلقات المبتوتات ممن ليس فيه ذلك المعنى .

1877 - حدثنا يونس ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : دخلت على مروان ، فقلت : إن امرأة من أهلك طلقت ، فمرت علينا آنفا وهي تنتقل ، فعبت ذلك عليهم ، فقال : أمرتنا فاطمة ابنة قيس وأخبرتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تنتقل حين طلقها زوجها إلى ابن أم مكتوم ، فقال مروان : أجل هي أمرتهم بذلك .

قال عروة : فقلت : أم والله لقد عابت ذلك عائشة أشد العيب ، وقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم .


التالي السابق


الخدمات العلمية