أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وأما الحجة لهم عليهم فيما ذكروا أنه يلزمهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية المغلظة ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب ذلك على عواقل القائلين ، إذ كان العواقل يصلون إلى ذلك ولسعة إطلاق القول على ما ظاهره الحمل ، أنه كذلك ، وإن كان لا حقيقة عندهم من ذلك ، وإن [ ص: 425 ] كان قد يجوز في المستأنف أن يظهر لهم من انتفاء الحمل عمن كان ظاهره عندهم الحمل وعدم الحمل منه في وقته ذلك ، لأن للرجل أن يقول : أمتي هذه حامل ، ويسعه أن يبيعها على أنها كذلك ليبرأ من عيبها بحملها ، ولا يكون إثما في إطلاق القول أنها حامل ، وإن كان قد يجوز أن تكون في الحقيقة بخلاف ذلك ، لأن هذا وما أشبهه إنما يعتد الخلق فيه بظاهره ، لا بما سواه ، أن لا ترى أن المرأة إذا طلقها زوجها ، وتبين لها من نفسها ما يدلها أن بها حملا منه ، أن لها أن تطالبه بالإنفاق عليها ، وأنها إن رأت الدم في أوقات أقرائها التي كانت ترى فيها الدم ، أن لا يلتفت إلى ذلك ، وأن لا يجعل حكم ذلك الدم حكم دم الحيض ، وأن لا تترك له الصلاة والصيام في قول الذين يزعمون أن الحامل لا تحيض ، وأنها لو علمت بعد ذلك أن لا حمل بها لرجعت في نفسها إلى الاعتداد بالدماء التي كانت دأبها في أيام أقرائها ، وإلى رد ما قبضته من زوجها المطلق لها من النفقة مما لم يكن يوجبه لها عليه الاعتداد بالأقراء ، وإلى قضاء ما صامته في شهر رمضان إن كان مر عليها في أيام أقرائها فلما كانت هذه الأشياء يستعمل فيها حكم الظاهر ، وإن كان الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك ، كان ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على العواقل من الإبل الحوامل ، هو ما يرجع فيه إلى أقوال العواقل فإذا أحضروا الإبل فقالوا : هذه خلفات ، ولم نعلم منها خلاف ذلك ، كان القول قولهم ، ولم يكلفوا خلاف ذلك ومثل هذا ما يجري بين الناس في معاملاتهم ، وما يشترطونه في بياعاتهم أن لا ترى أن رجلا لو باع رجلا هذا العبد على أنه صقلي ، أو على أنه رومي ، ثم ادعى المشتري أنه من خلاف الجنس الذي اشترطه البائع أن ذلك غير مقبول منه ، وأن القول قول البائع ، إذ كان لم يظهر في العبد خلاف ما قال ، وأنه لو علم بعد ذلك أنه من غير الجنس المشترط لكان للمشتري فسخ البيع أو إمضاؤه بلا شرط وكذلك الخلفات المرجوع فيها إلى أقوال العواقل إذا ادعى أولياء المقتولين أنها غير خلفات لم يقبل في ذلك دعواهم ، إذ كان لم يعلم منهن غير ما قالت العواقل ، وأنه لو علم منهن بعد ذلك إنهن غير خلفات كان لأولياء المقتولين ردهن على العواقل ومطالبتهم بخلفات مكانهن وهذا خلاف اللعان الذي لو أمضي في نفي الحمل ، ثم علم أن لا حمل مما قد ذكرنا ، ولو أن هذا الحمل وضعته أمه قبل قذف زوجها إياها ، ثم قذفها به ونفاه عن نفسه ، فإنه يلاعن .

[ ص: 426 ] بينها وبينه عليه ، وينتفي بذلك اللعان عن زوجها ، ويلحق بأمه ، ويكون كمن لا أب له في جميع أحكامه وهذا قول أهل العلم جميعا ، لا نعلم اختلافا من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا غير شاذ شذ في ذلك ، فخرج غير هذا القول ، وزعم أن الولد لا ينتفي من أبيه باللعان ، واحتج في ذلك فيما ذكر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وزعم أن اللعان في هذا كاللعان بالقول خاصة بلا ولد .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا خلاف ما قال .

1985 - حدثنا يونس ، قال حدثنا ابن وهب ، أن مالكا ، أخبره ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ، وألزم الولد أمه .

1986 - حدثنا يوسف بن يزيد ، قال حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، قال أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عبد الله بن عبيد الأنصاري ، قال : كتبت إلى صديق لي من بني زريق من أهل المدينة ، أن يسأل لي عن ولد المتلاعنين ، لمن قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكتب إلي : أني قد سألت فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به لأمه .

1987 - حدثنا يوسف ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا يحيى بن زكرياء ، قال حدثنا عبد الله بن عون ، عن الشعبي ، قال : خالفني عبد الله بن معقل ، وإبراهيم في ولد الملاعنة ، فقلت ألحقه به بعد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم ألحقه به فكتبوا في ذلك إلى المدينة فكتبوا أنه يلحق بأمه .

فهذا ما وجدناه في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه .

[ ص: 427 ] فأما ما احتج به هذا القائل الذي ذكرنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش فلم يكن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ، وإنما كان لمعنى سواه سنأتي به إن شاء الله فمن ذلك أن الأنساب قد كان في الجاهلية تدعى بوجوه مختلفة من النكاحات وما سواها كما :

1988 - حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة ، أخبرته ، أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء ، فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ابنته فيزوجها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته : إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يصنع ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع .

ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة ، فكلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، وهو ولدك يا فلان ، تسمي من أحبت منهم باسمه ، فيلحق به ولدها ، لا يستطيع أن يمتنع .

والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة فلا تمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ، ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، ودعي ابنه ، لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم .

ففي هذا النسب قد كانت ترد إلى غير الفرش فقال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 428 ] وسلم : الولد للفراش أي أنه لا يرد إلى شبه ، ولا إلى إصابة لا عن فراش وقد روي عن عمر بن الخطاب في نكاح أهل الجاهلية بزيادة على هذه المعاني كما :

1989 - حدثنا المزني ، قال حدثنا الشافعي ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة من أهل دارنا ، فذهبت مع الشيخ إلى عمر وهو في الحجر ، فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية ، قال : فكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها ، أو مات عنها نكحت بغير عدة ، فقال الرجل : أما النطفة فمن فلان ، وأما الولد فهو على فراش فلان .

أفلا ترى أن الزهري لما سأله عمر ، قال له : أما النطفة فمن فلان ، أي على ما كانوا يستعملون في الجاهلية من الحكم للنطف ، وأما الولد فعلى فراش فلان ، فصدقه عمر على ما قال ، ورد الحكم فيه إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وقد روي عن عمر أنه كان يرد دعوى الناس في الإسلام لما كان مولودا من نطفهم في الجاهلية إلى الحكم الذي كانوا عليه في الجاهلية كما :

1990 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد ، قال حدثني سليمان بن يسار ، أن عمر كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام .

1991 - حدثنا يونس ، قال حدثنا ابن وهب ، أن مالكا ، حدثه عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان ، فذكر مثله .

[ ص: 429 ] أفلا ترى أن عمر لما كانت الولادة في الجاهلية ، رد حكم دعواها إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، فدل ذلك أن ما خاطب به الزهري في حديث ابن أبي يزيد الذي ذكرنا قبل هذا ، إنما كان في مولود في الإسلام ، فرده إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : الولد للفراش .

التالي السابق


الخدمات العلمية