أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد روي عن عمر في دعوى بعض المولودين في الجاهلية ما :

1992 - حدثنا بحر بن نصر ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن حاطب ، عن أبيه ، قال : أتى رجلان إلى عمر يختصمان في غلام من دة الجاهلية ، يقول هذا : هو ابني ، ويقول هذا : هو ابني فدعا عمر قائفا من بني المصطلق ، فسأله عن الغلام ، فنظر إليه المصطلقي ، ثم نظر ، ثم قال لعمر : والذي أكرمك إني لأجدهما قد اشتركا فيه جميعا ، فقام إليه عمر ، فضربه بالدرة حتى أضجع ، ثم قال : والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مضرب ثم دعا أم الغلام فسألها ، فقالت : إن هذا لأحد الرجلين ، قد كان غلب على الناس حتى ولدت له أولادا ، فحبسني حتى يستبين حملي ، ثم يدعني على ذلك ، فولدت له على ذلك أولادا ، ثم وقع بي على نحو مما كان يفعل فحملت فيما أرى ، فأصابتني هراقة من دم حتى وقع في نفسي أن لا شيء في بطني قالت : ثم أن الآخر وقع بي ، فوالله ما أدري من أيهما هو ؟ .

فقال عمر للغلام : اتبع أيهما شئت فاتبع أحدهما :

قال عبد الرحمن بن حاطب : فكأني أنظر إليه متبعا لأحدهما ، فذهب به .

وقال عمر : قاتل الله أخا بني المصطلق .


هكذا قال بحر في إسناد هذا الحديث عن يحيى بن حاطب ، عن أبيه ، وإنما هو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، والدليل على ذلك قوله في آخر هذا الحديث : قال عبد الرحمن : وكأني أنظر إليه متبعا لأحدهما قد ذهب به .

أفلا ترى أن عمر قال للغلام : اتبع أيهما شئت وقد أحاط العلم أن فيهما من لم يكن زوجا لأمه ، وقد جعل له اللحاق به ، لأن ولادته كانت جاهلية ، فدل ذلك أن [ ص: 430 ] الأنساب قد كانت تكون في الجاهلية بالنطف وإن لم يكن معها نكاح وقد روي عن عمر زيادة على هذا .

1993 - حدثنا أبو بكرة ، قال حدثنا سعيد بن عامر الضبعي ، قال حدثنا عوف بن أبي جميلة ، عن أبي المهلب ، أن عمر بن الخطاب قضى في رجل ادعاه رجلان ، كلاهما يزعم أنه ابنه ، وذلك في الجاهلية ، فدعا عمر أم الغلام المدعى ، فقال : أذكرك بالذي هداك للإسلام ، لأيهما هو ؟ فقالت : لا والذي هداني للإسلام ، ما أدري لأيهما هو ؟ أتاني هذا أول الليل ، وأتاني هذا آخر الليل ، فلا أدري لأيهما هو .

فدعا عمر بقافة أربعة ، ودعا ببطحاء ، فنثرها ، فأمر الرجلين المدعيين فوطئ كل واحد منهما بقدم ، وأمر المدعى فوطئ بقدم ، ثم أراه القافة ، فقال : انظروا ، فإذا أتيتم فلا تكلموا حتى أسألكم فنظر القافة ، فقالوا : قد أثبتنا ثم فرق بينهم ، ثم سألهم رجلا رجلا .

قال : فتقاعدوا ، يعني تبايعوا أربعتهم ، كلهم يشهد أن هذا لمن هذين فقال عمر : يا عجبا لما يقول هؤلاء قد كنت أعلم أن الكلبة تلقح بالكلاب ذوات العدد ، ولم أكن أشعر أن النساء يفعلن ذلك قبل هذا ، إني لأرى ما ترون ، اذهب فهما أبواك .


أفلا ترى أن عمر في هذا الحديث والذي قبله لم يسأل عن نكاح ، إذ كان حكم المدعيين عنده ، وما كان منهما إلى المرأة ، إنما كان على السبب الذي كانوا عليه في مثل ذلك في الجاهلية ، ثم سمع الدعوى منهما ، وسأل المرأة عما ادعاه كل واحد منهما ، فكان من قولها ما ذكر ، فسأل القافة استثباتا منه ، هل يكون ولد من نطفتين فترتفع الإحالة عن دعواهما ؟ أو هل ذلك مستحيل ؟ فكان من قول القافة له ، ومن جوابهم ما قد ذكر في هذا الحديث ، فردهما بذلك إلى تكافؤ دعواهما ، وألحق الولد بهما ، وجعله ابنا لهما إذا كان من نطفهما فدل ذلك أن الولادات الجاهليات قد كان حكم النطف مستعملا فيها ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد ذلك إلى حكم الفراش ، فجعل الولد لاحقا بمن أمه له فراش ، لا من سواه ، وإن كان شبهه دليلا على أنه من نطفة غير صاحب [ ص: 431 ] الفراش وكذلك حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في دعواه عنده ابن وليدة زمعة المولود من نطفة أخيه بدعوى أخيه ذلك على غير فراش له كما :

1994 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا ، أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني ، فاقبضه إليك .

فلما كان عام الفتح أخذه سعد ، وقال : ابن أخي ، وكان عهد إلى فيه فقام إليه عبد بن زمعة ، فقال : أخي ، وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد : يا رسول الله ، ابن أخي قد كان عهد إلي فيه .

وقال عبد بن زمعة : أخي ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسودة ابنة زمعة : احتجبي منه ، لما رأى من شبهه بعتبة .

قالت : فما رآها حتى لقي الله .


أفلا ترى أن سعدا قد ادعى لعتبة أخيه ابن وليدة زمعة لأنه كان عهد إليه أنه منه ، ولم يكن أخوه ذا فراش ، على الحكم الأول الذي كانوا يستحقون به الأولاد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش ، تعليما منه لسعد أنك تدعي في الإسلام ولدا لمن يحضر فيدعيه لنفسه ، وممن لست بخصم عنه ، ولا مطالب له فأبطل بذلك دعواه ، ورده إلى عبد ، إذ كان ابن أمه لأبيه يده عليها ، فجعل ولدها في حكمها ، ثم قال لسودة : احتجبي منه إذ كان شبيها بالمدعى له ، لأنه في ظاهره من النطفة التي يدعيه سعد وفي أمره إياها بذلك دليل على أنه لم يقض في نسبه من زمعة بشيء ، ولو كان قضى بنسبه منه لكان قد جعله أخا لسودة ، وأمرها بصلته ، ونهاها عن حجابه عنها ، كما نهى عائشة عن [ ص: 432 ] حجابها عمها من الرضاعة والدليل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ، ما رواه ابن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما :

1995 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة ، قال حدثنا محمد بن قدامة ، قال حدثني جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يوسف بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : كانت لزمعة جارية يطؤها ، وكانت تظن برجل آخر أنه يقع عليها ، فمات زمعة وهي حبلى ، فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي كان يظن بها ، فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما الميراث له ، وأما أنت فاحتجبي منه ، فإنه ليس لك بأخ .

أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نفى نسبه عن أبيها ، إذ كان قد نفى أن يكون أخاها وقوله : أما الميراث له يحتمل أن يكون لإقرارهم به ، أن لا ترى أن عبدا قال : أخي ، وابن وليدة أبي وفيما روينا دليل على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش ما هو ، وليس ذلك مما يوهمه من ينفذ ، فقال : لا ينتفي الولد باللعان كما ذكرنا وفي انتفاء الولد باللعان السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها عنه ابن عمر ، فلا يجب أن يعارض أحد سنة بأخرى ، ولا يدخل معنى إحداهما في معنى الأخرى حتى تكون كل واحدة تقع على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، لا على غيره ولو أن هذا الزوج القاذف لامرأته بالولد الذي ذكرنا ، لم يلاعنها حتى طلقها طلاقا يملك فيه رجعتها ، ثم ارتفعا إلى القاضي وهي في العدة من ذلك الطلاق ، لاعن بينهما كما يلاعن بينهما قبل الطلاق ، لأنهما زوجان بحالهما ولو لم يرتفعا إلى القاضي حتى خرجت من العدة فكان الطلاق الذي طلقها إياه ثلاث تطليقات أو ما سواه من الطلاق الذي بينهما مدة ، لم يلاعن القاضي ، ولم نجد الرجل في القذف الذي كان منه ، لأن القذف الذي كان منه إنما كان يوجب عليه اللعان ، فلا يتحول الواجب عليه من [ ص: 433 ] اللعان إلى غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية