أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
كتاب المكاتبة .

[ ص: 456 ] تأويل قوله تعالى : ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) الآية .

قال الله جل ثناؤه : ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) .

فكان الكتاب الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية غير مبين ما هو فيها ، ولا فيما سواها من آي القرآن ، ومبينا في السنة ما هو ، وهو أن يكاتب الرجل مملوكه على مال معلوم على أنه يعتق بعقد المكاتبة عليه في حال ما قد اختلف فيها ، نحن ذاكروها في بقية هذا الباب إن شاء الله .

وأما قوله عز وجل : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، فقد اختلف في الخير المراد في ذلك ما هو ، فروي فيه عن غير واحد من المتقدمين ما نحن ذاكروه أيضا في هذا الباب إن شاء الله ، فمما روي عنهم في ذلك ما :

2032 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : صدقا ووفاء .

2033 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا بشر بن عمر ، عن شعبة ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : دينا .

2034 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن يونس ، [ ص: 457 ] عن الحسن ، ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : دينا وأمانة .

2035 - حدثنا إبراهيم ، قال حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن علمتم لهم مالا .

2036 - حدثنا إبراهيم ، قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة ، عن منصور ، عن عطاء ، ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : مالا .

2037 - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قال حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، قال حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن أقاموا الصلاة .

2038 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير .

فأما ما روينا في تأويل هذا الخير المذكور في هذه الآية عن إبراهيم والحسن فمعناه عندنا - والله أعلم - إن علمتم فيهم أن فيهم الدين والصدق والوفاء الذين يعاملوكم على أنهم متعبدون فيه بالوفاء لكم ، والخروج إليكم مما تكاتبونهم عليه ، أي فمن كانت هذه سبيله فكاتبوه إذا كان مذهبه الصدق في معاملته ، والوفاء لغريمه بما عليه .

[ ص: 458 ] وفي حمل هذا الخير على هذا التأويل ما دل على أن قوله عز وجل : فكاتبوهم عند إبراهيم والحسن على الإرشاد ، لا على الإيجاب .

وأما ما رويناه في تأويل الخير عن عبيدة ، وأنه الصلاة ، فإن كان يعني بذلك ما يجب على مقيمي الصلاة من الوفاء بالأقوال والامتثال في المعاملات ما قد أمر الله عز وجل به مقيمي الصلاة ، فقد رجع معنى ذلك إلى المعنى الذي ذهب إليه إبراهيم والحسن فيه .

وإن كان يعني إقامة الصلوات المفروضات خاصة فذلك عندنا لا معنى له ، لأنه لم يمنع في هذه الآية من مكاتبة غير أهل الصلاة من اليهود ، ومن النصارى ، وغيرهم ، ولم يكره ذلك لأحد من أهل الإسلام ، ولم ينه عنه .

وأما ما روينا في تأويل مجاهد وعطاء ، وأنه المال ، فذلك محال عندنا ، لأن العبد نفسه مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ؟

وأما ما روينا في تأويله عن سعيد ، وأنه إرادة الخير ، فذلك يرجع إلى معنى ما روينا عن الحسن وإبراهيم ، لأن الصدق والوفاء من الخير وهذا الذي ذكرنا من الكتاب فغير واجب على الناس ، وإن علموا فيمن يملكون الخير ، وابتغوا منهم الكتاب ، لأن ذلك لو كان واجبا على المالكين إذا طلبه منهم المملوكون ، لكان واجبا على المملوكين إذا طلبه منهم المالكون ، لأن أحكام التمليكات كلها من البياعات ، وغيرها كذلك يستوي فيها حكم المملك لها وحكم المملك إياها .

وقد اختلف أهل العلم في الرجل كاتب عبده على المال الحال ، فقالت طائفة : المكاتبة على ذلك جائزة وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد كما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، بغير اختلاف ذكره بينهم .

وقالت طائفة لا تجوز المكاتبة إلا على مال آجل ، ولا تجوز على المال العاجل وممن قال هذا الشافعي ، غير أنه زاد على أهل هذه المقالة في ذلك ، أن المكاتبة لا تجوز إلا إلى نجمين فما فوقها من النجوم ، ولا تجوز حالة ولا إلى نجم واحد .

[ ص: 459 ] ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيه ، فوجدنا البياعات جائزات على الأبدال العاجلة ، وعلى الأبدال الآجلة ، ووجدنا النكاحات والخلع كذلك ولم نجد شيئا متفقا عليه لا يجوز إلا بأجل غير السلم ، فإنهم جميعا مجمعون على أنه لا يجوز حالا غير الشافعي ، فإنه قد كان ذهب إلى إجازته حالا .

ولما كان حكم المكاتبة فيما ذكرنا فيه تمليك المكاتب كسبه بعوض يتعوض عليه ، كان حكمه بحكم البياعات أشبه فلما جاز عقد البياعات على الأيمان العاجلة وعلى الأيمان الآجلة ، جاز في عقد المكاتبات على الأموال العاجلة والآجلة هذا هو القياس عندنا في هذا الباب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية