أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس )

قال الله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) إلى قوله : ( إن شاء ) فكان المشركون على ظاهر هذه الآية على كل من أشرك بالله ممن له عهد وذمة [ ص: 132 ] وانتحال كتاب ، وممن لا عهد له ولا ذمة ولا انتحال كتاب ، غير أن أهل العلم قد تنازعوا في المراد بالمشركين من هم ؟ فقال مالك في آخرين ومن أهل المدينة : المراد بذلك كل مشرك بالله - عز وجل - ، على ظاهر الآية ، فلا يخلى بين أحد منهم وبين دخول المسجد الحرام الذي سمى الله - عز وجل - ، ولا غيره من مساجد الله التي لم يسمها فيها .

وقال الشافعي في آخرين سواهم : المراد بالمشركين هو جميعهم على ظاهر الآية كما قال مالك ، إلا أنه قال : أخلي بينهم وبين دخول كل مسجد من مساجد الله - عز وجل - إلا المسجد الحرام خاصة .

وقال أبو حنيفة ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد : المراد بالمشركين المذكورين فيها من ليس منهم ذا عهد ولا ذمة ، وسووا في ذلك بين المسجد الحرام وبين ما سواه من سائر مساجد الله - عز وجل - . ورووا ذلك عن جابر .

183 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، وحدثنا عبد الملك بن مروان ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابرا ، يقول في هذه الآية : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) : " إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية " .

فهذا محتمل أن يكون من التلاوة في قراءة جابر ، ومحتمل أن يكون ليس منها ، ولكنه يعني به المراد فيها ، وعلى أي المعنيين كان ذلك فإن أهل الجزية والعبيد من أهل الكفار عنده غير داخلين في هذه الآية ولا نعلم أحدا من الصحابة خالف جابرا في مذهبه هذا ، وهو الوجه عندنا والله أعلم وذلك أن من لاعهد له من الكفار مطلوبون بالزوال عن الكفر الذي هم فيه ، وبالقتل عليه أن يزولوا عنه ، فمن كانت هذه سبيله لم يخل بينه وبين دخول مساجد أهل الإسلام ، ومن كانت سبيله منهم خلاف ذلك فهو مخالف لهم في حكمهم ومخلى بينه وبين دخول ما يدخله المسلمون من مساجدهم ومما سواها .

وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على هذا المعنى .

184 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن عثمان بن أبي العاص ، أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم فيه في المسجد ، فقالوا : يا رسول الله ، قوم أنجاس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء ، إنما أنجاس الناس [ ص: 133 ] على أنفسهم " ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النجاسة التي في الكفار المعدومة في المسلمين غير مفرقة بين أحكامهم وأحكام المسلمين في دخول المساجد والجلوس فيها " .

ولما اختلفوا في ذلك هذا الاختلاف وسارعوا في تأويل الآية التي تلونا هذا التنازع الذي ذكرناه عنهم ، نظرنا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل فيها شيء يدل على شيء من ذلك ؟ فإذا .

185 - إبراهيم بن أبي داود : قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني ، قال : أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : حدثني حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة ، قال : " بعثني أبو بكر ممن يؤذن في يوم النحر بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأكبر الحج ، وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الناس في ذلك العام فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك ، وأنزل الله - عز وجل - في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم ) هذا إلى قوله : ( إن الله عليم حكيم ) " .

وكان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون ، فلما حرم الله - عز وجل - على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها ، فقال الله - عز وجل - : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فبما أجد في الآية التي تتبعها وهي الجزية ولم تكن توجد قبل ذلك ، فجعلها الله - عز وجل - عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم ، فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ ص: 134 ] .

فلما أحل الله - عز وجل - ذلك للمسلمين عرفوا أنه قد أعاضهم أفضل مما كانوا يأخذون عليه بما كان المشركون يوافون به من التجارة .

وقد روي عن مجاهد في هذا المعنى ما :

186 - قد حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله : ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) قال : قال المؤمنون : " كنا نصيب من متاجر المشركين ، فوعدهم الله - عز وجل - أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوا المسجد الحرام " .

ففي هذه الآية مع أول براءة ومع آخرها في التأويل .

وقد روي فيما أذن به في تلك الحجة بسبب نزول هذه الآية ما :

187 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، وبشر بن ثابت البزار ، قالا : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، عن محرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، أنه قال : " كنت مع علي بن أبي طالب حيث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى بأربع حتى صحل صوتي : أنه لا تدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فإن أجله إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة أشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله " .

188 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم بن عيينة ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، ثم بعث عليا ، فبينا أبو بكر في بعض الطريق ، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج أبو بكر فزعا ، وظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا علي ، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره على الموسم ، وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، فانطلقنا ، فقام علي أيام التشريق ، فقال : " ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن " قال : فكان علي ينادي بها ، فإذا بح قام أبو هريرة فأذن بها " . [ ص: 135 ] ففي هذه الآثار السبب الذي نزلت فيه هذه الآية ، وأنه منع المشركين من حج البيت مع المسلمين كما كانوا يحجون معهم قبل ذلك ، وأن المشركين المذكورين فيها هم عبدة الأوثان دون أهل الكتاب ، لأن الله - عز وجل - لما أعاض المسلمين مما كانوا يصيبونه من تجارات المشركين جزية أهل الكتاب ، عقلنا بذلك أن أهل الكتاب غير أولئك المشركين ، وعقلنا بذلك أن المشركين المذكورين فيها هم المشركون المذكورون في قوله - عز وجل - : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ) وعقلنا بالنداء الذي نودي به : " لا يحجن بعد العام مشرك " ، أن قرب المسجد الحرام الذي منعوا منه وقربة الحج الذي كانوا يحجونه ، لا غير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية