أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قول الله تعالى : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) الآية

قال الله - عز وجل - : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) ، فكان هذا من المتشابه المحتمل للتأويل ، لأنه يحتمل أن يكون أريد بالسعي سرعة المشي والعدو ، ويحتمل أن يكون أريد به السعي بالقلوب والأعمال ، لا على الأقدام ، أي : يخلص بالسعي إليها حتى لا يكون في ذلك ما يخالطه من غيرها ، فنظرنا في ذلك فوجدنا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد نهى عن السعي والعدو في إتيان الصلاة ، فمن ذلك ما :

223 - حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، قال : حدثنا مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .

224 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، وإسحاق بن عبد الله ، أنهما سمعا أبا هريرة يحدث ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله وزاد : " فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة .

225 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها تمشون عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا " .

226 - حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إذا جاء [ ص: 150 ] أحدكم فليمش على هيئته ، فليصل ما أدرك ، وليقض ما سبق به " .

فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآثار من السعي إلى الصلاة بسرعة المشي والعدو ، فعلمنا بذلك أن السعي المراد في الآية التي تلونا غير السعي الذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فعله في إتيان الصلاة التي عم بها سائر الصلوات .

ثم وجدنا عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتلو مكان السعي في هذه الآية المضي ، منهم عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما .

227 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني سالم ، أن عبد الله بن عمر ، قال : " لقد توفى الله عمر بن الخطاب وما يقرأ هذه الآية إلا : " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله " .

228 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، قال : " لو قرأتها : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) ، لسعيت حتى يسقط ردائي " .

وهذا من ابن مسعود على التكثر من الله - عز وجل - ، أراد بذلك السعي الذي ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عنه ولا كنا لا نقرأها إلا على ما وجدنا في مصاحفنا الذي قامت به الحجة ، عليها أئمتنا رضوان الله عليهم .

ومعنى السعي المأمور به فيها عندنا هو الإخلاص ، وقد ذكر الله - عز وجل - السعي في غير هذا الموضع ، قال الله - عز وجل - : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ، وقال - عز وجل - : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ) ، وقال - عز وجل - : ( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ) ، وقال - عز وجل - : ( ثم أدبر يسعى فحشر فنادى ) ، وقال - عز وجل - : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [ ص: 151 ] .

فلم يكن مراده - عز وجل - في شيء من ذلك السعي المنهي عن إتيان الصلوات عليه من السرعة في المشي والعدو ، بل كان على ما سوى ذلك من الإرادات بالقلوب ، بالسعي المذكور في الآية التي تلوناها هو هذا السعي ، والله أعلم .

وكذلك نأمر الذي يأتي للصلاة بالمشي على هيئته لا يأتيها وقد حصره النفس الذي شغله عنها ، وتقطعت عما أمر به فيها ، وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، وسائر أهل العلم سواهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية