أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
فإن ذهب ذاهب آخر إلى أن الركعتين اللتين صلاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الثانية كانت له تطوعا ، وكانت للمأمومين فريضة ، لأنه يجوز عنده أن تصلي الفريضة خلف إمام يصلي تطوعا ، ويحتج في ذلك بما روي عن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته لقومه العشاء بعد صلاته إياها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن إبراهيم بن مرزوق :

388 - حدثنا ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، أن معاذا - رضي الله عنه - كان " يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم .

هي له تطوع وهي لهم فريضة ، وليس من الحديث ، ولا من لفظ جابر ، ولا عمرو بن دينار ، وذلك أن ابن عيينة قد روي هذا الحديث عن عمرو ، وأبي الزبير بألفاظ أكثر من ألفاظ حديث ابن جريج ولم يذكر فيه هذا الحرف ، وذلك أن إسماعيل بن يحيى المزني :

389 - حدثنا ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو سمع جابرا ، يقول : كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ، أو قال : العتمة ، ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة ، فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ، أو قال : العتمة ذات ليلة ، فصلى معاذ معه ، ثم رجع فأم قومه ، فافتتح سورة البقرة ، فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده ، فقيل له : أنافقت ؟ قال : لا ، ولآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنك أخرت العشاء ، وإن معاذا يصلي معك ، ثم رجع فأمنا ، فافتتح سورة البقرة ، فلما رأيت ذلك تأخرت فصليت ، وإنما نحن أصحاب نواضح ، نعمل بأيدينا .

فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ ، فقال : " أفتان أنت يا معاذ ؟ أفتان [ ص: 207 ] أنت يا معاذ ؟ أفتان أنت يا معاذ ؟ اقرأ سورة كذا وسورة كذا " .


390 - حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : " اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، والسماء والطارق ، ونحوها " .

قال سفيان : فقلت لعمرو : إن أبا الزبير ، يقول : قال له : " اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، والسماء والطارق " .

فقال عمرو : هو هذا أو نحو هذا .

391 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا إبراهيم بن يسار ، قال : حدثنا سفيان ، عن كل واحد من عمرو ، ومن أبي الزبير بما رويناه عنه في حديثي المزني ، وتابع سفيان على ترك ذلك الحرف منصور بن زاذان .

392 - فحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سريح بن النعمان الجوهري ، قال : حدثنا هشيم ، قال أخبرنا منصور يعني ابن زاذان ، عن عمرو ، عن جابر ، أن معاذا - رضي الله عنه - كان " يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة " .

وتابع سفيان على ذلك إبراهيم بن إسماعيل غير أنه ذكره عن أبي الزبير ولم يذكره عن عمرو .

393 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن معاذا كان " يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيصليها بقومه " .

ففي هذه الآثار التي روينا أن معاذا كان يصلي لقومه الصلاة التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك ينفي ما في حديث ابن جريج ، لأنه لو كان يصلي بقومه [ ص: 208 ] تطوعا لكان ما يصلي بهم غير ما كان صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي قوله : " إنه كان يصلي بقومه ما صلاه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك " ، دليل أنه فعل من ذلك ما ذكرناه مما كان يفعل في أول الإسلام من إعادة الفريضة مرتين ، حتى قطع ذلك نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه .

394 - حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن معاذ بن رفاعة ، عن رجل من بني سلمة ، يقال له : سليم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن معاذا يأتينا بعد ما ننام ، ونكون في أعمالنا بالنهار ، فينادي بالصلاة فنخرج إليه ، فيطول علينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ، لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف على قومك " .

ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لمعاذ ، لما علم ما كان يفعل مما ذكرناه عنه ، دليل على أنه لم يبح له جمعهما جميعا ، لأنه لو أباح له جمعهما ، لقال له : صل معي وخفف بقومك .

فإن قال قائل : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر قوم معاذ الذين صلوا خلفه بإعادة ما صلوا خلفه كذلك .

قيل له : وكيف يأمرهم بإعادة صلاة قد كانت لهم مباحة أن يصلوها كما صلوها خلف معاذ ، لما قد ذكرنا عن ابن المسيب ، وخالد بن أيمن ، أن أهل العوالي ، وهم قوم معاذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يصلون الفريضة مرتين حتى نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

فلما كانوا على صلاة قد كانت مباحة لهم لم يبلغهم النهي عنها حتى صلوها على الفرض الأول كانت مجزئة عنهم ، ولم تكن عليهم إعادتها .

وقد كان أبو يوسف رحمه الله ، قال مرة : لا تصلى صلاة خوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى ذلك عنه محمد وأنكره عليه ، وخالفه فيه إلى قول أبي حنيفة الذي رويناه عنه .

وكان من حجة أبي يوسف فيما ذهب إليه من ذلك أن الله - عز وجل - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) الآية ، فإنما أمرهم بذلك لفضل الصلاة معه على صلاتهم وحدانا ، وعلى صلاتهم مع غيره [ ص: 209 ] .

وكان من الحجة عليه للآخرين فيما احتج عليهم من ذلك أن قول الله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) ، كقوله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، فلم يكن ذلك على صدقة تنقطع بوفاته يأخذها ولاة الأمر من بعده كما كان هو يأخذها في حياته - صلى الله عليه وسلم - .

فقال قائل : لا يشبه هذا قوله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) لأن قوله : ( خذ من أموالهم صدقة ) قد جعل إليه أخذ الصدقة ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأخذها بنفسه ، ويأخذها بأمره من يوليه أخذها إياه بنفسه ، وأخذ غيره إياه له بأمره سواء ، وهو في ذلك أخذ له .

وأما قوله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) فإن كون غيره بأمره فيهم ليس كونه ، فالأخذ يكون من الآخذ بنفسه وبغيره ممن يأمره بذلك ، ويكون فيهما جميعا أخذا ، والكون لا يكون من الكائن فيهم ، إلا بكونه بنفسه لا بكينونة غيره فيهم ، لأنه في تكوينه غيره فيهم مكون لغيره غير كائن بنفسه .

قيل له : أما الكون الذي لا يكون إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في كونه بيديه فهو كما ذكرت ، ولا يجوز أن يخلف فيه ، وأما الكون الذي به تقيم الفرائض فإن خليفته في أمته هو خليفته في إقامة الفرائض التي كان يقيمها .

وليس القصد بالخطاب إلى كونه في الناس بمسقط للفرائض عنهم بخروجه منهم ، ولا معه لحكمها بعده كما كانت عليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - .

وقد رأينا أشياء جرت على خطاب خاصة من الناس ، فلم يكن المراد فيها من خوطب بها خاصة دون من سواهم من الناس ، ولم يكن ذهاب المخاطبين بها مسقطا لفرضها عمن حدث بعدهم ، ولا مزيل لأحكامها عما كانت عليه من ذلك قول الله - عز وجل - لنبيه : ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ) الآية ، فلم يكن القصد بالخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ما يمنع أن يكون ذلك إلى من خلفه من بعده كما كان إليه في حياته ، بل كان ذلك إلى خلفائه من بعده كما كان إليه قبلهم .

ومن ذلك قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ، ثم قال - عز وجل - : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، ولم يقل : فمن شهد الشهر فليصمه مع أن قوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) يخبر بتقدم إيمانهم نزول الآية .

وقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) يدل على أنه إنما عنى المخاطبين ، ولم يكن [ ص: 210 ] ذلك الخطاب على المعدومين ، ولا على من لم يلحق الفرائض ممن كان صبيا في وقت نزول الآية ، وقد لحق ذلك كل من عاد حكمه إلى حكم أهل الفرض الأول ممن خوطب بالآية ، وصار اللاحقون بهم والكائنون بعدهم مخاطبين بها ، مرادين بفرضها كما كان من كان من المؤمنين في وقت نزولها .

ومن ذلك قوله - عز وجل - : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) الآية ، وقوله : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ) الآية . وقوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) وأشباه هذا في القرآن كثير .

فلما كان الحادثون ممن فيهم المعنى الذي من أجله وجب الفرض على الأولين ، يكونون في الفرض عليهم ، وفي لزومه إياهم كالأولين ، كان كذلك الحادثون من ولاة الأمر في إقامة الفرائض ، والكون فيمن يقيمونها فيهم في حكم الذين خلفوه فيهم .

فإن قال قائل : إن الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها من الفضل ما ليس للصلاة مع غيره فوجب لفضل الصلاة معه إباحة الانصراف منها في غير موضع الانصراف في غيرها ، والصلاة مع من هو مثله فيهم كما تفضل الصلاة معه الصلاة مع غيره من الناس .

قيل : الأمر في فضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم ، كما ذكرت ، ولكنا لم نر ذلك الفضل أسقط فرضا عن المأمومين ، ولا أباح محظورا كان عليهم .

ألا ترى أنهم يتطهرون لها كما يتطهرون للصلاة مع غيره ، ويأتون بقيامها ، وركوعها ، وسجودها ، وسائر ما يأتون به فيها معه كما كانوا يأتون به لو صلوها مع غيره ، فلما كان فضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم ، غير مغير لحكم الصلاة في نفسها ، ولا لحكم الفرض على المأمومين فيها ثبت بذلك أن ما أبيح لهم من الانصراف لم يكن لفضل الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه إنما كان لأن نفس الصلاة كذلك كانت .

وحجة أخرى وهي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين شهدوا نزول الآية ، وحضروا استعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها قد جعلوها من بعده - صلى الله عليه وسلم - على حكمها الذي كان في وقته ، منهم : ابن مسعود ، وحذيفة ، وزيد بن ثابت ، وقد سئلوا عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتوا بها وأخبروا كيف [ ص: 211 ] صلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يمنعوا من حدثوه بها عن امتثال ذلك ، ولا أعلموه أن ذلك مما قد سقط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان فرضها خاصا إذا لأعلموا ذلك من سألهم عنها كما أعلم أبو ذر الذي سأله عن فسخ الحج ، فقال : كان لنا وليس لكم ، وسنأتي بذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

ففي تركهم تبيان ما ذكرنا لسائلهم دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة ، وزفر ، وأبو يوسف ، في قوله الذي تابعهما عليه ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي .

وقد روينا عن سهل بن أبي حثمة في هذا الباب وصفه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة العدو في حديث شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم .

ثم روينا من حديث مالك ، وشعبة ، عن يحيى بن سعيد ذكر كيفيتها ، فذلك أيضا دليل أن مذهبه كان في ذلك كمذهب من ذكرنا ممن يقول : إن للناس استعمالها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية