أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات )

قال الله - عز وجل - : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فلم نحتج إلى ذكر الصلاة الوسطى في هذا الموضع أي الصلوات هي ؟ إذ لا حكم في ذلك يحتاج إلى ذكره مع أنا قد بينا المعنى في ذلك ، وذكرنا الروايات فيه في كتاب شرح معاني الآثار .

وأما قوله : ( وقوموا لله قانتين ) فهو من المتشابه الذي يحتاج إلى علم المراد به ما هو ؟ وذلك أن القنوت قد جرى في كتاب الله تعالى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - على معاني مختلفة .

فمنها قول الله - عز وجل - لأمهات المؤمنين : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا ) فذلك في معنى قوله : " ومن يطع منكن الله ورسوله " .

ومن ذلك قوله في كتابه : ( يا مريم اقنتي لربك ) على ظاهر معناه القيام في الصلاة ، [ ص: 212 ] لأنه مع الركوع والسجود اللذين يكونان في الصلاة .

ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " .

395 - حدثناه علي بن معبد ، قال : حدثنا شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا سليمان بن مهران ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

396 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

397 - حدثناه علي بن معبد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن علي الأودي ، عن عبيد بن عمير ، عن عبد الله بن حبشي الحنفي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فلما احتمل القنوت في الآية التي تلونا ما ذكرنا ، ولم نجد في كتاب الله - عز وجل - ما يدلنا على المراد به ، طلبناه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

398 - فحدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، وحدثنا حسين بن نصر ، قال : سمعت يزيد بن هارون ، ثم اجتمعا ، فقالا : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) ، فأمرنا بالسكوت .

ففي هذا الحديث ما يدل على أن المراد بالقنوت في الآية التي تلونا النهي عن الكلام الذي كانوا يتكلمون به في الصلاة لحوائجهم ولما هو بهم ، من أمورهم .

399 - كما حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : كنا نتكلم في الصلاة ونأمر بالحاجة ، ونقول : السلام على الله ، وعلى جبريل ، وعلى ميكائيل ، وكل عبد صالح نعلم اسمه في السماء والأرض ، " . [ ص: 213 ] فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة ، وهو يصلي ، فسلمت عليه فلم يرد ، فأخذني ما قدم وما حدث .

فلما قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ، نزل في شيء ؟ قال : " لا ، ولكن الله - عز وجل - يحدث من أمره ما يشاء " .


400 - وكما حدثنا يحيى بن إسماعيل المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : " كنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا وهو في الصلاة ، فلما رجعنا من أرض الحبشة أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلي ، فسلمت عليه فلم يرد علي .

قال : فأخذني ما قرب وما بعد ، فجلست حتى إذا قضى الصلاة ، قال : إن الله - عز وجل - يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أنه قضى ألا تتكلموا في الصلاة " .


ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : " وإن مما أحدث أنه قضى ألا تتكلموا في الصلاة دليل عندنا ، والله أعلم .

إن الذي أحدث من ذلك هو مما أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالآية التي تلونا على ما في حديث زيد بن أرقم الذي روينا ، لأن زيدا قد أخبر أن سبب النهي نزول تلك الآية عليه - صلى الله عليه وسلم - .

ولما ثبت نسخ الكلام في الصلاة بعد أن كان مباحا فيها ، ثبت أنه لا يصلح أن نتكلم في الصلاة بذلك الكلام المنسوخ منها ، وأن يكون المتكلم به فيها قاطعا لها وخارجا منها ، وأن يستوي في ذلك العمد والسهو جميعا كما يستويان فيمن صلاها قبل الوقت الذي أمرنا بالصلاة فيه متعمدا أو ساهيا ، وكما يستويان فيمن صلاها على غير طهارة متعمدا أو ساهيا وكما يستويان فيمن أحدث فيها حدثا من الأحداث التي تقطعها متعمدا أو ساهيا .

هكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقولون في الكلام وفي الصلاة المنسوخ منها إنه يقطعها من المتكلم إذا كان ساهيا كما يقطعها منه لو كان متعمدا ، غير السلام منها على السهو في الموضع الذي لو كان السلام فيه على العمد قطع الصلاة مثل أن يسلم من اثنين ساهيا ، فإنه عندهم غير قاطع لها .

وقد خالفهم في ذلك مخالفون ، فقالوا : يقطعها السلام على السهو كما يقطعها لو كان على العمد . وهذا هو القياس عندنا للمعاني التي قدمنا ذكرها في استواء حكم العمد والسهو جميعا فيها [ ص: 214 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية