أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
فلما كانت وقعة بدر فقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال : كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يدفع إليهما من عنده من قريش فنقتلهم بمن قتل منكم يوم بدر .

ففي هذا الحديث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا هاجروا إلى أرض الحبشة لم يخرجوا عنها حتى جعل الله - عز وجل - لهم دار هجرة أخرى سواها وهي المدينة .

وفيه أيضا أن عثمان الذي ذكر محمد بن إسحاق أن قدومه كان مع قدوم ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، إنما كان بالمدينة ، وهؤلاء الذين رووا هذا الحديث فهم أصحاب المغازي الذين أخذ محمد المغازي عمن أخذها عنهم ، وهو الزهري ، ولا [ ص: 219 ] سيما إن كان الذي ذكر أن قدوم ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة ، نقول : أن منقطع ابن المسيب يقوم مقام المتصل .

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على هذا المعنى أيضا .

411 - حدثنا يونس ، قال : حدثني ابن وهب ، قال حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة ، أن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بمكة للمسلمين : " قد أريت دار هجرتكم ، فرأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان " ، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة .

412 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : سمعت معمرا يحدث ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ففي هذا الحديث ما يدل على أن المسلمين الذين هاجروا إلى أرض الحبشة لم يرجعوا إلا إلى دار هجرة سواها ، وكيف يجوز أن يقال : إنهم رجعوا إلى دار قد هاجروا منها وذلك مما قد منعوا منه ، ألا ترى إلى ما قد روى العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

413 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا أنس بن عياض الليثي ، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : سمعت عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، يسأل السائب بن يزيد ما سمعت في سكنى مكة ؟

فقال : قال العلاء بن الحضرمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " .


414 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا حبان بن هلال ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن حميد ، فذكر بإسناده مثله .

415 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا الوحاظي ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، قال حدثني عبد الرحمن بن حميد ، فذكر بإسناده مثله ، وزاد كأنه يقول : لا يزيد عليها [ ص: 220 ] .

أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للمهاجرين في الإقامة في الدار التي هاجروا منها أكثر من المدة التي وقتها لهم في حديث العلاء الذي ذكرناه .

416 - ولقد حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، أنه قال : مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت ، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، أخلف عن هجرتي ، قال : " إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف بعدي حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم " ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

أفلا ترى أن سعدا قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخلف عن هجرتي لكراهية المقام في غير دار هجرته ، وإلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سعد بن خولة ما قد قاله فيه لموته في غير دار هجرته .

417 - ولقد حدثني محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن عمرو بن القاري ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن القاري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة ، فخلف سعدا مريضا حين خرج إلى حنين ، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع ، فقال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ؟ قال : " إني لأرجو أن يرفع الله - عز وجل - بك أقواما وينتفع بك آخرون ، يا عمرو بن القاري ، إن مات سعد بعدي فادفنه هاهنا نحو طريق المدينة وأشار بيده هكذا " .

أفلا ترى أن سعدا ، قال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ، يعني : للهجرة إلى غيرها ، أي : أن ذلك مكروه ، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو القاري : " إن مات سعد بعدي فادفنه نحو طريق المدينة " أي : نحو الطريق إلى الدار التي هاجر إليها .

وكيف يجوز لأحد بعد هذا أن يظن بالمهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم تركوا دار هجرتهم التي اختارها الله - عز وجل - لهم على الدار التي كانوا فيها ، ورجعوا إلى الدار التي كانوا فيها ، إن هذا من القول لعظيم [ ص: 221 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية