صفحة جزء
643 - 31 حدثنا إبراهيم بن محمد بن علي الرازي ، حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن أبي حمزة ، حدثنا حماد بن محمد السلمي أبو القاسم المروزي ، حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم ، عن مقاتل بن حيان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، - رضي الله عنهما - ، أنه بينما هو جالس ذات يوم إذ أتاه رجل ، فقال : يا ابن عباس ! ، أسمعت بالعجب من كعب الأحبار - رحمه الله تعالى - يذكر في الشمس والقمر ؟ قال : وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - متكئا فاحتفز ، ثم قال : وما ذلك ؟ قال : زعم أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة ، كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار - قال : عكرمة - رحمه الله تعالى - : فطارت من ابن عباس - رضي الله عنهما - شظية ، ووقعت أخرى غضبا .

- ثم قال : " كذب كعب - ثلاثا - ، هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام ، جل وعز أجل وأكرم أن يعذب على طاعته ، ألم تر إلى قول الله - عز وجل - : ( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) يعني : دؤوبهما في طاعته ، فكيف يعذب عبدين ، أثنى عليهما أنهما دائبان في [ ص: 1164 ] طاعته ؟ ! - قاتل الله هذا الحبر ، وقبح حبريته - ، ما أجرأه على الله - عز وجل - ، وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله - عز وجل - .

ثم استرجع مرارا ، ثم أخذ عويدا فجعل ينكته في الأرض ، فظل كذلك ما شاء الله ، ثم إنه رفع رأسه ، ورمى بالعود ، ثم قال : " ألا أحدثكم ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الشمس والقمر وبدء خلقهما ، ومصير أمرهما ؟ " قال : قلنا : نعم ، - يرحمك الله تعالى - ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك ، فقال : " إن الله - عز وجل - لما أبرم خلقه إحكاما ، ولم يبق من خلقه غير آدم ، خلق شمسين من نور عرشه ، فأما ما كان في سابق علمه أن يدعها شمسا ، فإنه خلقها مثل الدنيا ، ما بين مشارقها ومغاربها ، وما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمرا ، فإنه خلقها دون الشمس في العظم ، ولكن إنما يرى صغرها من شدة ارتفاعها في السماء وبعدها من الأرض ، فلو ترك الله - عز وجل - الشمس والقمر كما كان خلقهما في بدء الأمر ، لم يعرف الليل من النهار ، ولا النهار من الليل ، وكان لا يدري الأجير متى يعمل ، ومتى يأخذ أجره ؟ ولا يدري الصائم إلى متى يصوم ، ومتى يفطر ؟ ولا تدري المرأة متى تعتد ؟ ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم ؟ ولا متى وقت حجهم ؟ ، [ ص: 1165 ] ولا يدري المديان متى حل دينهم ؟ ، ولا يدري الناس متى يزرعون لمعايشهم ؟ ومتى يسكنون لراحة أجسادهم ؟ فكان الرب - جل جلاله - أنظر لعباده ، وأرحم بهم ، فأرسل جبريل - عليه السلام - ، فأمر جناحه على وجه القمر ، وهو يومئذ شمس ثلاث مرات ، وطمس عنه الضوء ، وبقي فيه النور ، فذلك قوله تعالى : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) الآية ، فالسواد الذي ترونه في القمر ، شبه الخطوط فيه فهو أثر المحو .

ثم خلق الله - عز وجل - للشمس عجلة من ضوء نور العرش لها ثلاثمائة وستون عروة ، ووكل الله - عز وجل - بالشمس ، وعجلتها ثلاثمائة وستين ملكا من الملائكة من أهل سماء الدنيا ، قد تعلق كل ملك منهم بعروة من تلك العرى ، ووكل القمر وعجلته ثلاثمائة وستين ملكا من الملائكة من أهل سماء الدنيا ، قد تعلق بكل عروة من تلك العرى ملك منهم ، وخلق الله - تبارك وتعالى - مشارق ومغارب في قطري الأرض ، وكنفي السماء ثمانين ومائة عين في [ ص: 1166 ] المشرق طينة سوداء ، وثمانين ومائة عين في المغرب مثل ذلك طينة سوداء ، تفور غليا كغلي القدر ، إذا ما اشتد غليانها ، فذلك قوله تعالى : ( تغرب في عين حمئة ) ، وإنما يعني حمأة سوداء من طين ، وكل يوم وليلة لها مطلع جديد ، ومغرب جديد ، ما بين أولها مطلعا ، وأولها مغربا أطول ما يكون النهار في الصيف ، وآخرها مطلعا ومغربا أقصر ما يكون النهار في الشتاء ، فذلك قوله تعالى : ( رب المشرقين ورب المغربين ) ، يعني : آخرها ها هنا ، وآخرها ها هنا ، وترك ما بين ذلك من المغارب والمشارق ، ثم جمعها بعد ذلك ، فقال : ( برب المشارق والمغارب ) ، فذلك عدة تلك العيون كلها ، وخلق الله - عز وجل - بحرا دون السماء بمقدار ثلاث فراسخ ، فهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله تعالى ، لا يقطر منه قطرة ، والبحور كلها ساكنة ، وذلك البحر جار في سرعة السهم ، ثم انطباقه في الهواء مستو ، كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب ، فتجري الشمس والقمر والخنس في ذلك البحر ، فذلك قوله : ( كل في فلك يسبحون ) .

والفلك دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر ، والذي نفس محمد بيده ! لو بدت الشمس من دون ذلك البحر ، لأحرقت كل شيء في الأرض ، حتى الصخور والحجارة ، ولو بدا القمر من دون ذلك البحر ، لافتتن به أهل الأرض حتى يعبدوه من دون الله تعالى إلا من شاء الله أن يعصمه من أوليائه ، قال : ابن عباس - رضي الله عنهما - : فقال : علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : بأبي أنت وأمي ، يا رسول الله ! ذكرت مجرى الخنس مع الشمس والقمر ، وقد أقسم الله - عز وجل - بالخنس في القرآن إلى ما كان من [ ص: 1167 ] ذكرك اليوم ، فما الخنس ؟ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " هن خمس كواكب : البرجيس ، وزحل ، وعطارد ، وهرام ، والزهرة ، فهذه الكواكب الخمس الطالعات الجاريات ، مثل الشمس والقمر في الفلك ، الغاربات معها .

فأما سائر الكواكب كلها فمعلقات من السماء كتعليق القناديل في المساجد ، فهن يدرن مع السماء دورانا بالتسبيح والتقديس ، والصلاة لله - عز وجل - " ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وإن أحببتم أن تستبينوا ذلك ، فانظروا إلى دوران الفلك ها هنا مرة ، وها هنا مرة ، وإن لم تستبينوا ذلك ، فالمجرة وبياضها مرة ها هنا ، ومرة ها هنا ، فذلك دوران السماء ، ودوران الكواكب معهما كلها سوى هذه الخنس ، ودورانها اليوم كما ترونها ، وفلك صلاتها ، ودورانها يوم القيامة في سرعة دوران الرحى من أهوال يوم القيامة وزلازله ، فذلك قوله : ( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين ) ، فإذا طلعت الشمس ، فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ، ومعها ثلاثمائة وستون ملكا ناشرو أجنحتهم في الفلك ، يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس لله - عز وجل - على قدر ساعات النهار ، والقمر كذلك على قدر ساعات الليل ، ما بين الطوال والقصير ، في الشتاء كان ذلك أو الصيف ، أو ما بينهما في الخريف والربيع ، فإذا أحب الله - عز وجل - أن يبتلي الشمس والقمر ، ويري العباد آية من الآيات ، يستعتبهم رجوعا عن معاصيه ، وإقبالا على طاعته ، خرت الشمس عن العجلة ، فتقع في غمر ذاك البحر ، فإذا [ ص: 1168 ] أراد أن يعظم الآية ، ويشتد تخويف العباد ، وقعت الشمس كلها ، فلا يبقى على العجلة منها شيء ، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم ، وذلك المنتهى من كسوفها ، وإذا أراد الله - عز وجل - أن يجعل آية ، دون آية ، وقع النصف منها ، أو الثلث ، أو الثلثان في الماء ، ويبقى سائر ذلك على العجلة ، فهو كسوف دون كسوف ، وبلاء الشمس والقمر ، وتخويف العباد ، واستعتاب الرب - عز وجل - ، أي ذلك كان صارت الملائكة الموكلون بعجلتها فرقتين : فرق منها يقبلون إلى العجلة فيجرونها إلى الشمس ، وهم في ذلك يقودونها في الفلك على مقادير ساعات النهار ، أو ساعات الليل ليلا كان أو نهارا ، لئلا يزيد في طولها شيء ، وقد ألهمهم الله تعالى على ذلك ، وجعل لهم تلك القوة ، والذي ترون من خروج الشمس ، بعد الكسوف قليلا قليلا من ذلك السواد الذي يعلوها ، هو غمر ماء ذلك البحر ، فإذا أخرجوها كلها اجتمعت الملائكة كلها ، فاحتملوها حتى يضعوها على العجلة ، وذلك حين يتجلى للعالم ، ثم يحمدون الله - عز وجل - على ما قواهم كذلك ، ويتعلقون بعرى العجلة ، ويجرونها بإذن الله تعالى في لجة ذلك البحر ، حتى إذا ما بلغوها المغارب ادخلوها تلك العين ، وتسقط في أفق السماء في العين " ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :

وعجبت من خلق الله - عز وجل - ، وما بين من القدرة ، فيما لم يخلق أعجب من ذلك وأعجب ، فذلك قول جبريل - عليه السلام - لسارة : أتعجبين من أمر الله ؟ .

وذلك أن الله - عز وجل - خلق مدينتين : إحداهما بالمشرق ، والأخرى [ ص: 1169 ] بالمغرب ، على كل مدينة منها عشرة آلاف باب ، ما بين كل بابين فرسخ ، وأهل المدينة التي بالمشرق من بقايا عاد ، من نسل مؤمنيهم الذين كانوا آمنوا بهود ، وأهل المدينة التي بالمغرب من بقايا ثمود ، من نسل مؤمنيهم الذين كانوا آمنوا بصالح ، واسم المدينة التي بالمشرق بالسريانية " برقبيسا " ، وبالعربية : " جابلق " ، واسم المدينة التي بالمغرب بالسريانية " برجيسا " ، وبالعربية : " جابرس " ، ينوب كل يوم على كل باب من أبوابها عشرة آلاف ألف رجل في الحراسة ، عليهم السلاح ، ومعهم الكراع ، ثم لا تنوبهم تلك الحراسة بعد ذلك اليوم إلى يوم ينفخ في الصور ، والذي نفس محمد بيده ! ، لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس جميع أهل الدنيا ، وقع هذه الشمس حين تطلع ، وحين تغرب ، ومن ورائهم ثلاث أمم : منسك ، وتأويل ، وتاريش ، ومن دونهم يأجوج ومأجوج ، وإن جبريل [ ص: 1170 ] - عليه السلام - انطلق بي إليهم ليلة أسري بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فدعوت يأجوج ومأجوج إلى دين الله ، وإلى عبادته ، فأبوا أن يجيبوني ، وهم في النار مع من عصى الله من ولد آدم ، وولد إبليس ، ثم انطلق بي إلى هاتين المدينتين ، فدعوتهم إلى دين الله وعبادته ، فأجابوا وأنابوا ، فهم إخواننا في الدين ، من أحسن منهم فهو مع محسنكم ، ومن أساء منهم فهو مع المسيء منكم ، ثم انطلق بي إلى الأمم الثلاث ، فدعوتهم إلى دين الله - عز وجل - وإلى عبادته ، فأبوا علي ذلك ، وأنكروا مع ما أدعوهم إلى دين الله ، فكفروا بالله ، وكذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهم مع يأجوج ومأجوج وسائر من عصى الله في النار ، فإذا ما غربت الشمس ، دفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة ، وتحبس تحت العرش ، فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع : أمن مغربها أو من مطلعها ؟ [ ص: 1171 ] فتكسى ضوءها ، فإذا كان القمر فنوره على مقادير ساعات الليل والنهار ، ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا ، وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة ، فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء ، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء ، فذلك حين ينفجر الصبح ، فإذا انحدرت في بعض تلك العيون ، فذلك حين يضيء الصبح ، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء ، فذلك حين تطلع الشمس ، كذلك مطلعها ومغربها ، بين أولها عينا إلى آخرها عينا في الطلوع والغروب ، فذلك تمام ستة أشهر ، ثم إذا رجعت كذلك من عين إلى عين في الطلوع والغروب إلى آخرها عينا ، فذلك تمام السنة بعدة أيامها ولياليها ثلاثمائة وستون يوما ، وثلاثمائة وستون ليلة .

وخلق الله - عز وجل - عند المشرق حجابا من الظلمة ، فوضعها على البحر السابع مقدار عدة الليالي في الدنيا ، منذ يوم خلق الله - عز وجل - الدنيا إلى يوم تصرم ، فإذا كان عند غروب الشمس أقبل ملك من الملائكة قد وكل بالليل ، فقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب ، ثم يستقبل المغرب ، فلا يزال يرسل تلك الظلمة من خلل أصابعه قليلا قليلا ، وهو يراعي الشفق ، فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ، ثم ينشر جناحيه ، فيبلغان قطري الأرض وكنفي السماء ، ويجوزان ما شاء الله ، خارجا في الهواء ، فيسوق ظلمة الليل بجناحيه ، بالتسبيح والتقديس لله [ ص: 1172 ] - عز وجل - حتى يبلغ المغرب على قدر ساعات الليل ، فإذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق ، وضم جناحيه ، ثم يضم الظلمة كلها ، بعضها إلى بعض بكفيه ، ثم يقبض عليها بكف واحدة نحو قبضة إذ تناولها من الحجاب بالمشرق ، ثم يضعها عند المغرب على البحر السابع ، فمن هنالك ظلمة الليل ، وإذا ما نقل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب نفخ في الصور ، وانقضت الدنيا ، فضوء النهار من قبل الشمس ، وظلمة الليل من قبل ذلك الحجاب ، فلا تزال الشمس والقمر كذلك عن مطلعها إلى مغربها إلى ارتفاعها إلى السماء السابعة ، التي تحبسها تحت العرش ، حتى يأتي الوقت الذي وقت الله - عز وجل - التوبة للعباد ، وتكثر المعاصي في الأرض ، ويذهب المعروف ولا يأمر به أحد ، ويفشو المنكر ، ولا ينهى عنه أحد ، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش ، كلما سجدت واستأذنت من أين تطلع ؟ لم يحر إليها جواب ، حتى يوافقها القمر فيسجد معها ، ويستأذن من أين يطلع ؟ فلا يحار إليه جواب ، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال الشمس ، وليلتين القمر ، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض ، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين ، في هوان من الناس ، وذلة من أنفسهم ، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام فيها من الليالي ، ثم يقوم فيتوضأ ، فيدخل مصلاه ، فيصلي ورده ، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كل ليلة مثل ذلك ، فينكر ذلك فيخرج ، وينظر إلى [ ص: 1173 ] السماء ، فإذا هو ليل مكانه ، والنجوم قد استدارت مع السماء ، فصارت إلى أماكنها من أول الليل ، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون ، فيقول : خففت قراءتي ؟ أم قصرت صلاتي ؟ أم قمت قبل حين ؟ ، قال : " ثم يدخل فيعود إلى مصلاه ، فيصلي نحوا من صلاته ليلته الثانية ، ثم ينظر فلا يرى الصبح ، فيخرج أيضا ، فإذا هو بالليل مكانه ، فيزيده ذلك إنكارا ويخالطه الخوف ، ويظن في ذلك الظنون من الشر .

ثم يقول : لعلي قصرت صلاتي ، أو خففت قراءتي ، وقمت من أول الليل ، ثم يعود وهو وجل مشفق خائف ، لما يتوقع من هول تلك الليلة ، فيصلي أيضا مثل ورده كل ليلة قبل ذلك ، ثم ينظر فلا يرى الصبح ، فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء ، فإذا هو بالنجوم قد استدارت مع السماء ، فصارت عند أول الليل ، فيشفق عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر ، فيستخفه الحزن وتستخفه الندامة .

ثم ينادي بعضهم بعضا ، وهم قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون ، فيجتمع المتهجدون - أو المجتهدون - من أهل كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ، ويجأرون إلى الله - عز وجل - بالبكاء والصراخ بقية تلك الليلة ، فإذا ما تم لهما مقدار ثلاث ليال ، أرسل الله - عز وجل - إليهما جبريل ، فيقول : إن الرب - عز وجل - يأمركما : أن ترجعا إلى مغاربكما ، فتطلعا منه ، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور ، قال : " فيبكيان عند ذلك وجلا من [ ص: 1174 ] الله - عز وجل - ، وخوف يوم القيامة ، بكاء يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونهما ، وأهل سرادقات العرش ، وحملة العرش من فوقها ، فيبكون جميعا لبكائهما مع ما يخالطهم من خوف الموت ، وخوف يوم القيامة ، فترجع الشمس والقمر في‍طلعان من مغاربهما .

وبينما المتهجدون يبكون ، ويصرخون إلى الله - عز وجل - ، والغافلون في غفلتهم ، إذ نادى مناد : ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب ، فينظر الناس ، فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر ، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك ، فذلك قوله - عز وجل - : ( وجمع الشمس والقمر ) ، وذلك قوله : ( إذا الشمس كورت ) ، فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنيين ، ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقا ، ويتصارخ أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات عن أولادهن ، [ ص: 1175 ] والأجنة عن ثمرات قلوبهم ، وتشتغل كل نفس بما أتاها ، فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ ، ويكتب لهم عبادة ، وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ، ويكتب عليهم حسرة ، فإذا بلغت الشمس والقمر سرة السماء - وهو منتصفها - جاءهما جبريل ، فأخذ بقرونهما ، فردهما إلى المغرب ، فلا يغربهما من مغاربهما من تلك العيون ، ولكن يغربهما من باب التوبة ، قال عمر - رضي الله عنه - : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ، وما باب التوبة ؟ قال : " يا عمر ! خلق الله باب التوبة خلف المغرب ، له مصراعان من ذهب ، مكللان بالدر والجوهر ، ما بين المصراع إلى المصراع الأخير مسيرة أربعين عاما ، للراكب المسرع ، فذلك باب مفتوح مذ يوم خلق الله - عز وجل - خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ، فلم يتب عبد من عباد الله - عز وجل - توبة نصوحا مذ خلق الله - عز وجل - آدم إلى ذلك اليوم ، إلا ولجت تلك التوبة من ذلك الباب ، تم ترتفع إلى الله - عز وجل - " .

قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : بأبي أنت وأمي ، يا رسول الله ! وما التوبة النصوح ؟ قال : " أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله - عز وجل - ، ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع " ، قال : " فيغر بها جبريل - عليه السلام - في ذلك الباب ، ثم يرد [ ص: 1176 ] المصراعين ، فيلتئم ، ما بينهما صدع قط ، فإذا أغلق باب التوبة ، لم تقبل لعبد عند ذلك توبة ، ولا تنفعه حسنة يعملها في الإسلام ، إلا من كان قبل ذلك محسنا ، فإنه يجري له وعليه ما كان يجري قبل ذلك ، فذلك قوله - عز وجل - : ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، الآية . قال أبي بن كعب - رضي الله عنه - : يا رسول الله ! أنا وأهلي فداك ، فكيف بالشمس والقمر يومئذ ، وفيما بعد ذلك ؟ وكيف بالناس والدنيا ؟ قال : " يا أبي ! ، فإن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك النور والضوء ، ويطلعان على الناس ، ويغربان كما كانا قبل ذلك ، وأما الناس فإنهم رأوا ما رأوا من فظاعة تلك الآية وعظمها ، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار ، ويغرسون النبت ، ويبنون البنيان .

وأما الدنيا لو نتج فيها رجل مهرا ، لم يركبه حتى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور " ، قال حذيفة - رضي الله عنه - : يا نبي الله ! ، جعلني الله فداك ، فكيف هم عند النفخ في الصور ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا حذيفة ! ، والذي نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - بيده ! لينفخن في [ ص: 1177 ] الصور ، ولتقومن الساعة ، والرجل يلط حوضه ، فلا يسرع فيه الماء ، ولتقومن الساعة ، والرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه ، ولتقومن الساعة ، والثوب بين الرجلين ، فلا يطويانه ولا يتبايعانه ، ولتقومن الساعة ، والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها ، ثم تلا هذه الآية : ( وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ) ، فإذا قامت القيامة ، قضى الله تعالى بين الناس ، وميز بين أهل الجنة والنار ، ولم يدخلوها بعد ، إذ يدعو الرب - جل جلاله - بالشمس والقمر ، فيجاء بهما أسودين مكورين ، قد وقعا في زلازل وبلابل ، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ، ومخافة الرحمن - تبارك وتعالى - ، وإذا كانا حيال العرش ، خرا لله ساجدين ، فيقولان : [ ص: 1178 ] إلهنا ! قد علمت طاعتنا لك ، ودؤوبنا في عبادتك ، وسرعتنا في المضي في أمرك أيام الدنيا ، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا ، وقد علمت أنا لم ندع إلى عبادتنا ، ولم نذهل عن عبادتك ، فيقول الرب - تبارك وتعالى - : صدقتما ، فإني قد قضيت على نفسي أن أنزه وأعبد ، وإني معيدكما إلى ما بدأتكما منه ، فيقولان : ربنا ! مم خلقتنا ؟ فيقول : خلقتكما من نور عرشي ، فارجعا إليه ، قال : " فيلتمع مع كل واحد منهما برقة ، تكاد تخطف الأبصار نورا ، فتختلط بنور العرش " ، فذلك قوله تعالى : ( إنه هو يبدئ ويعيد ) ، قال عكرمة - رحمه الله تعالى - : " فقمت مع النفر الذين حدثوا عن كعب ، ما حدثوا به من أمر الشمس والقمر ، حتى أتيناه فأخبرناه بما غضب ابن عباس - رضي الله عنهما - ، ووجد من حديثه ، وبما حدث به ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما ، ما بين مبدئهما إلى مغاربهما " ، قال كعب - رحمه الله تعالى - : " إني حدثت [ ص: 1179 ] عن كتاب دارس منسوخ ، قد تداولته الأيدي ، وابن عباس - رضي الله عنهما - حدث عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن - عز وجل - ما نسخ ، وعن سيد الأنبياء وأفضل النبيين ، ثم قام فمشى إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - ، فقال : بلغنا ما كان وجدك من حديثنا ، وبما حدثت به عن كتاب الله - عز وجل - ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وإني أستغفر الله تعالى من ذلك ، مع ما يعلم الله تعالى أني لم أتقوله من تلقاء نفسي ، ولكن حدثت عن كتاب دارس منسوخ ، ولا أدري ما كان فيه من تبديل الكفار واليهود ، فأحب أن تحدثني ما حدثت أصحابك عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأحفظ الحديث عنه ، فإذا حدثت بشيء عن الشمس والقمر فيما بعد كان هذا الحديث مكان الحديث الأول .

قال عكرمة - رحمه الله - : " والله لقد أعاد علينا ابن عباس - رضي الله عنهما - الحديث ، وإني أستقريه في قلبي بابا بابا ، فما زاد فيه شيئا ولا نقص ، ولا قدم شيئا ولا أخر ، فزادني ذلك في ابن عباس - رضي الله عنهما - رغبة ، وللحديث حفظا " .
[ ص: 1180 ]

[ ص: 1181 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية