صفحة جزء
966 - 13 حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الآملي ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا أبي ، عن معمر بن سام ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، أنه سئل عن ذي القرنين ؟ ، قال : كان ذو القرنين عبدا من عباد الله - عز وجل - صالحا ، وكان من الله بمنزلة ضخم ، وكان قد ملك ما بين المشرق والمغرب ، وكان له خليل من الملائكة يقال له " زيافيل " ، وكان يأتي ذا القرنين يزوره ، فبينا هما ذات يوم يتحدثان ، إذ قال له ذو القرنين : حدثني كيف كانت عبادتكم في السماء ؟ قال : فبكى ، ثم قال : يا ذا القرنين ، وما عبادتكم عند عبادتنا في السماء ، ملائكة قيام لا يجلسون أبدا ، ومنهم ساجد لا يرفع رأسه أبدا ، وراكع لا يستوي [ ص: 1462 ] قائما أبدا ، ورافع وجهه لا يطرق شاخص أبدا يقول : سبحان الملك القدوس ، رب الملائكة والروح ، رب ! ما عبدناك حق عبادتك . قال : فبكى ذو القرنين بكاء شديدا ، ثم قال : يا زيافيل ! ، إني أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي حق طاعته ، قال : وتحب ذلك يا ذا القرنين ؟ قال : نعم ، قال زيافيل : فإن لله - تبارك وتعالى - عينا تسمى عين الحياة ، من شرب منها شربة لم يمت أبدا حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت . قال ذو القرنين : فهل تعلمون أنتم موضع تلك العين ؟ قال زيافيل : لا ، غير أنا نتحدث في السماء أن لله ظلمة في الأرض ، لم يطأها إنس ولا جن ، ونحن نظن أن تلك العين في تلك الظلمة .

قال : فجمع ذو القرنين علماء أهل الأرض ، وأهل دراسة الكتب ، وآثار النبوة ، فقال : أخبروني ، هل وجدتم في كتاب الله ، وفيما عندكم من الأحاديث عن الأنبياء ، والعلماء قبلكم ، أن الله - تبارك وتعالى - وضع على الأرض عينا سماها عين الحياة ؟ قالوا : لا . قال ذو القرنين : فهل وجدتم فيها أن الله تعالى وضع في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جن ؟ قالوا : لا . فقال عالم منهم : أيها الملك ، لم تسأل عن هذا ؟ فأخبره بما قاله زيافيل ، فقال : أيها الملك ! ، إني قرأت وصية آدم - عليه السلام - ، فوجدت فيها أن الله - تبارك وتعالى - وضع في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان ، قال ذو القرنين : فأين وجدتها في الأرض ؟ ، قال : وجدتها على قرن الشمس ، فبعث ذو القرنين ، فحشر الناس ، والفقهاء والأشراف والملوك ، ثم سار يطلب مطلع الشمس ، فسار إلى أن بلغ طرف الظلمة اثنتي عشرة سنة ، فإذا الظلمة ليست بليل ، وهي ظلمة تفور مثل الدخان ، فعسكر ، ثم جمع علماء أهل عسكره فقال : إني أريد أن أسلك هذه الظلمة ، فقالوا : أيها الملك ! ، إنه قد كان قبلك من الأنبياء ، والملوك لم يطلبوا [ ص: 1463 ] هذه الظلمة فلا تطلبها ، فإنا نخاف أن يتشعب علينا منها أمر نكرهه ، ويكون فيه فساد أهل الأرض ، فقال ذو القرنين : لا بد أن أسلكها ، فخرت العلماء سجودا ، ثم قالوا : أيها الملك ! ، كف عن هذه ، ولا تطلبها ، فإنا لو كنا نعلم أنك إذا طلبتها ظفرت بما تريد ، ولم يسخط الله علينا لكان ، ولكنا نخاف المقت من الله تعالى ، وأن يتشعب علينا منها أمر يكون فيه فساد أهل الأرض ومن عليها ، فقال ذو القرنين : إنه لا بد من أن أسلكها ، قالوا : فشأنك ، قال : أخبروني أي الدواب بالليل أبصر ؟ قالوا : البكارة ، فأرسل فجمع له ستة آلاف فرس أنثى بكارة ، فانتخب من عسكره ستة آلاف رجل من أهل العقل والعلم ، فدفع إلى كل رجل فرسا ، وعقد للخضر - صلى الله عليه وسلم - على مقدمته في ألفي رجل ، وبقي هو في أربعة آلاف رجل .

وقال لمن بقي من الناس في العسكر : لا تبرحوا عسكري اثنتي عشرة سنة ، فإن نحن رجعنا إليكم ، وإلا فارجعوا إلى بلادكم ، فقال الخضر : أيها الملك ! ، إنك تسلك ظلمة لا تدري كم مسيرتها ، ولا يبصر بعضنا بعضا ، فكيف نصنع بالظلل إذا أصابتنا ؟ فدفع ذو القرنين إلى الخضر خرزة حمراء ، فقال : إذا أصابكم الظلل ، فاطرح هذه الخرزة إلى الأرض ، فإذا صاحت ، فليرجع أهل الظلال ، فسار الخضر بين يدي ذي القرنين ، يرتحل الخضر ، وينزل ذو القرنين ، وقد [ ص: 1464 ] عرف الخضر ما يطلب ذو القرنين ، وذو القرنين يكتم ذلك ، فبينا الخضر يسير إذ عارضه واد ، فظن أن العين في ذلك الوادي ، فلما أتى شفير الوادي ، قال لأصحابه : قفوا ، ولا يبرحن رجل منكم من موقفه ، ورمى الخضر بالخرزة فإذا هي على حافة العين ، فنزع الخضر ثيابه ، ثم دخل العين ، فإذا ماء أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من الشهد ، فشرب منه وتوضأ واغتسل ، ثم خرج فلبس ثيابه ، ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فوقعت الخرزة ، فصاحت فرجع الخضر إلى صوت الخرزة ، وإلى أصحابه فركب ، وقال لأصحابه : سيروا بسم الله .

قال : ومر ذو القرنين ، فأخطأ الوادي ، فسلكوا تلك الظلمة أربعين يوما ، ثم خرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر ، أرض خضراء حشاشة ، وإذا في تلك الأرض قصر مبني طوله فرسخ في فرسخ ، مبوب ، ليس عليه أبواب ، فنزل ذو القرنين بعسكره ، ثم خرج وحده حتى نزل ذلك القصر ، فإذا حديدة قد وضع طرفاها على حافتي القصر من هاهنا وهاهنا ، فإذا طائر أسود كأنه الخطاف مزموم بأنفه إلى الحديد ، معلق بين السماء والأرض ، قال : فلما سمع الطائر خشخشة ذي القرنين ، قال : من هذا ؟ قال : أنا ذو القرنين . قال الطائر : ما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي ؟ ، ثم قال : يا ذا القرنين ! حدثني ، قال : سل ما شئت . قال : هل كثر بناء الجص والآجر ؟ قال : نعم . قال : فانتفض الطائر انتفاضة انتفخ ، ثم انتفض حتى بلغ ثلث الحديدة ، ثم [ ص: 1465 ] قال : يا ذا القرنين ! أخبرني . قال : سل . قال : كثر شهادات الزور في الأرض ؟ قال : نعم ، فانتفض الطائر ، ثم انتفخ حتى بلغ ثلثي الحديدة . قال : يا ذا القرنين ! حدثني ، هل كثر المعازف في الأرض ؟ قال : نعم ، فانتفض الطائر حتى ملأ الحديدة ، سد ما بين جداري القصر . قال : ففرق ذو القرنين فرقا شديدا قال الطائر : يا ذا القرنين ! ، لا تخف حدثني ، قال : سل . قال : هل ترك الناس شهادة أن لا إله إلا الله بعد ؟ قال : لا . قال : فانتفض الطائر ثلاثا ، ثم قال : حدثني يا ذا القرنين ! . قال : سل . قال : هل ترك الناس الصلاة المكتوبة بعد ؟ . قال : لا ، فانتفض ثلاثا ، ثم قال : [حدثني يا ذا القرنين ! . قال : سل] . قال : هل ترك الناس الغسل من الجنابة بعد ؟ قال : لا ، فعاد الطائر كما كان .

ثم قال : يا ذا القرنين ! ، اسلك هذه الدرجة التي في أعلى القصر . قال : فسلكها ذو القرنين ، وهو خائف حتى إذا استوى على صدر الدرجة ، إذا سطح ممدود في واد عليه رجل قائم ، أو متشبه بالرجل ، شاب عليه ثياب بيض ، رافع وجهه إلى السماء ، واضع يده على فيه ، فلما سمع حس ذي القرنين ، قال : من هذا ؟ قال : أنا ذو القرنين ، فمن أنت ؟ قال : أنا صاحب الصور . قال : فما بالي أراك واضع يدك على فيك ، رافع وجهك إلى السماء ؟ قال : إن الساعة قد اقتربت ، فأنا انتظر من ربي أن يأمرني أن أنفخ ، ثم أخذ صاحب الصور شيئا من بين يديه ، كأنه حجر ، فقال : خذ هذا يا ذا القرنين ! ، فإن شبع هذا الحجر شبعت ، وإن جاع جعت ، فأخذ ذو القرنين الحجر .

ثم رجع إلى أصحابه فحدثهم [ ص: 1466 ] بالطير وما قال له ، وما رد عليه ، فجمع ذو القرنين أهل عسكره ، فقال : أخبروني عن هذا الحجر ، ما أمره ؟ فأخذ العلماء كفتي الميزان ، فوضعوا الحجر في إحدى الكفتين ، ثم أخذوا حجرا مثله ، فوضعوه في الكفة الأخرى ، فإذا الحجر الذي جاء به ذو القرنين ، مثل جميع ما وضع معه حتى وضعوا معه ألف حجر ، قال العلماء : أيها الملك ! ، انقطع علمنا دون ذلك ، أسحر هذا أم علم ؟ ما ندري هذا ؟ . قال : والخضر ينظر ما يصنعون ، وهو ساكت ، فقال ذو القرنين للخضر : هل عندك من هذا علم ؟ قال : نعم ، فأخذ الميزان بيده ، ثم أخذ الحجر الذي جاء به ذو القرنين ، فوضعه في إحدى الكفتين ، ثم أخذ حجرا من تلك الأحجار مثله ، فوضعه في الكفة الأخرى ، ثم أخذ كفا من تراب ، فوضعه مع الحجر الذي جاء به ذو القرنين ، ثم رفع الميزان ، فاستوى . قال : فخر العلماء سجدا ، وقالوا : سبحان الله ، إن هذا العلم ما نبلغه . قال ذو القرنين للخضر : فأخبرني ما هذا ؟ قال الخضر : أيها الملك ! ، إن سلطان الله قاهر لخلقه ، وأمره نافذ فيهم ، وإن الله تعالى ابتلى خلقه بعضهم ببعض ، فابتلى العالم بالعالم ، وابتلى الجاهل بالجاهل ، وابتلى الجاهل بالعالم ، والعالم بالجاهل ، وإنه ابتلاني بك ، وابتلاك بي . قال ذو القرنين : حسبك ، قد قلت فأخبرني . قال : أيها الملك ! ، هذا مثل ضربه لك صاحب الصور ، أن الله - عز وجل - سبب لك البلاد ، وأعطاك منها لم يعط أحدا ، وأوطأك منها ما لم يوطئ أحدا ، فلم تشبع ، فأبت نفسك إلا شرها ، حتى بلغت من سلطان الله - عز وجل - ما لم يبلغه أحد ، وما لم يطلبه إنس ولا جان ، فهذا مثل ضربه لك صاحب الصور ، فإن ابن آدم لا يشبع أبدا ، دون أن يحثى عليه التراب . قال : فهنا يا ذا القرنين ! ، ثم قال : صدقت يا خضر ! في ضرب [ ص: 1467 ] هذا المثل ، لا جرم لا أطلب أثرا في البلاد ، وبعد مسيري هذا حتى أموت .

ثم ارتحل ذو القرنين راجعا ، حتى إذا كان في وسط الظلمات ، وطئ الوادي الذي كان فيه زبرجد ، فقال الذين معه : أيها الملك ! ، ما هذا الذي تحتك ؟ ، وسمعوا خشخشة تحتهم ، قال ذو القرنين : خذوا فإنه من أخذ ندم ، ومن ترك ندم ، فأخذ منه الرجل الشيء بعد الشيء ، وترك عامتهم لم يأخذوا شيئا ، فلما خرجوا فإذا هو زبرجد ، فندم الآخذ والتارك .

ثم رجع ذو القرنين إلى دومة الجندل ، وكان منزله بها ، فأقام بها ، حتى مات . قال أبو جعفر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " رحم الله أخي ذا القرنين ، لو ظفر بالزبرجد في مبدئه ما ترك منه شيئا ، حتى يخرجه إلى الناس ؛ لأنه كان راغبا في الدنيا ، ولكنه ظفر به ، وهو زاهد في الدنيا ، لا حاجة له فيها " .


وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . [ ص: 1468 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية