صفحة جزء
قال : قلت : قد قدمت إلى أمير المؤمنين فيما احتججت به أن على المؤمنين أن يثبتوا ما أثبت الله وينفوا ما نفى الله ، ويمسكوا ما أمسك الله ، فأخبرني الله أنه عالم ، فقلت : إنه عالم بقوله : عالم الغيب والشهادة ، وأخبرني أن له علما بقوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأخبرني أنه سميع بصير ، فقلت بالخبر ولم يخبرني أن له سمعا وبصرا ، فأمسكت .

فقال المأمون : ما هو مشبها ، فلا تكذبوا عليه .

فقال لي بشر : فما معنى العلم لو أن رجلين وردا عليك فقالا ما معنى العلم ؟ فحلف أحدهما بالطلاق أن العلم هو الله ، وقال الآخر : أن العلم غير الله ، ما كان جوابك ؟

قلت : أما مسألتك إياي ما معنى العلم ، فإنك تسألني عما لم يخبرني الله به ولم يخبر أحدا ، فأمرتني أن أقول على الله ما لم أعلم كما أمر الشيطان ، فأولى الأمرين بي أن أمسك عما حرم الله علي أن أقول به ، وأمرني الشيطان أن أقوله .

قال الله عز وجل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما [ ص: 235 ] لا تعلمون .

وقال : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

ثم أقبلت على المأمون ، فقلت : يا أمير المؤمنين! إن بشرا قد علم أنه قد أفحم فلم يكن عنده جواب ، فيسأل عما لم يكن له أن يسأل عنه ولا يكون لي أن أجيب عنه ، فأراد أن يقول إن عبد العزيز سأل بشرا عن مسألة فلم يجبه ، وسأل بشر عبد العزيز فلم يجبه ، فأنا وبشر يا أمير المؤمنين من مسألتي ومسألته على غير السواء ، سألته عما أعلمه الله به ووقعه عليه بالإعلام وتعبده بالإيمان به لقوله : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ، فأبى أن يقر به ، وسألني عن معنى العلم وقد ستر الله ذلك عني وعنه ، وإنما يدخل النقص علي لو كان بشر يعلم أو أحد من العلماء ما العلم ، فأما ما نجتمع أنا وبشر والخلق في الجهل بمعرفته ، فلم يكن الضرر داخلا علي دونه ، وهذه مسألة لا يحل لمؤمن أن يسأل عنها ولمؤمن أن يجيب فيها ، لأن الله عز وجل أمسك عن أن يخبر كيف علمه ، فلم يكن لأحد أن يتكلفه ولا يخبر عنه ولا لسائل أن يسأل عنه ، فلما كان علينا أن نقول سميعا بصيرا ، قلنا ، وليس لنا أن نقول : سمع وبصر .

قال عبد العزيز : " وقلت لبشر : حين تسألني ما معنى العلم وتشير علي أن أقول على الله ما لم يقله ، هل تجوز هذه المسألة في خلق من خلق الله ؟

قد قال الله عز وجل : إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ، فلو ورد علي ثلاثة نفر فحلف أحدهم أن الأقلام خشب ، وحلف الآخر أنها قصب ، [ ص: 236 ] وحلف الآخر أنها خوص ، كان علي أن أميز بين قول هؤلاء ؟ !

وقال الله عز وجل : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ، فلو ورد علي رجلان فحلف أحدهما أنه الزهرة ، وحلف الآخر أنه المشتري ، أكان علي أن أنظر بين هذين أيهما المصيب من المخطئ ؟ !

وقال عز وجل : فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ، فلو أن ثلاثة نفر حلفوا فقال أحدهم : المؤذن ملك ، وقال الآخر : هو إنسي ، وقال الآخر : هو جني ، كان علي أو على أحد من الناس أن يقضي بينهم إلا أن يكون الله أخبر في كتابه كيف ذلك وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا لم يوجد شيء من هذا عن الله ولا عن رسوله ، لم يكن لأحد أن يصل الخبر بتفسير من تلقاء نفسه ، فإذا كان هذا لا يجوز في خلق من خلق الله ، فكيف تجوز المسألة في الله وقد حرم الله عز وجل على الناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ؟

قال عبد العزيز : " ورأيته قد حار في يدي ، فقلت : يا أمير المؤمنين! احتج بشر بقوله تعالى : خالق كل شيء ، فليعط بالمكيال الذي أراد أن يأخذ به إن كان صادقا .

قال الله عز وجل : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، كتب ربكم على نفسه الرحمة .

وقال : ويحذركم الله نفسه [ ص: 237 ] .

وقال : واصطنعتك لنفسي ، فأخبر أن له نفسا .

وقال : كل نفس ذائقة الموت ، فلو أن ملحدا ألحد علي وعلى بشر ، فقال : قد أخبر الله أن كل نفس ذائقة الموت ، وأن له نفسا ، ما كانت الحجة لي وله عليه .

قال : فقال بشر : إن كنت تريد نفس ضمير أو توهم جارحة .

فقلت : كم ألقي إليك أني أقول بالخبر وأمسك عن علم ما ستر عني ، وإنما أقول : إن لله نفسا كما قال ، فليكن معناها عندك ما شئت ، أهي داخلة في قوله : كل نفس ذائقة الموت ؟ إلى كم تفر إلى المعاني ؟ انظر هل أجري معك حيث تجري ؟

قال : فقال المأمون : ويحك يا عبد العزيز! كيف هذا ؟

قلت : " يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل أنزل القرآن بأخبار خاصة وعامة ، ففيها ما يكون مخرجها مخرج العموم ومعناها معنى العموم ، ومنه خبر مخرج لفظه مخرج خاص ومعناه معنى خاص ، منهما خبران محكمان لا ينصرفان بإلحاد ملحد ، ومن القرآن خبر مخرج لفظه خاص ومعناه عام ، وخبر مخرج لفظه عام ومعناه خاص ، وفي هذه دخلت الشبه على من لم يعرف خاص القرآن [ ص: 238 ] وعامه ، فأما الخبر الذي مخرجه عام ومعناه عام ، فقوله : وله كل شيء فجمع هذا الخبر الخلق والأمر فلم يبق شيء إلا وقد أخبر أنه له ، فمخرجه عام ومعناه عام ، وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه خاص فما قدم في عيسى عليه السلام أنه خلق من غير أب ، وفي آدم عليه السلام .

وقال : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، فلم يتوهم مؤمن أن الله عز وجل عنى آدم وعيسى .

وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه عام ، فهو قوله : وأنه هو رب الشعرى ، فهو رب الشعرى وغير الشعرى .

وأما الخبر الذي معناه خاص ، فهو قوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر ، إنما كان معناه خاصا ، لأن امرأة لوط لم تعن ، ولما أنزل الله عز وجل القرآن على معاني هذه الأخبار ، لم يتركها أشباها على الناس ، ولكن بيانها خاص لقوم يفهمون ، وإذا أنزل الله خبرا مخرج لفظه خاص ومعناه عام ، بين في أكثر ذلك ما بينه بأحد بيانين : إما أن يستثني من الجملة شيئا فيكون بيانا للناس أكملهم . أو يقدم فيهم خبرا خاصا فلا يعنيه ، فإذا أنزل خبرا عاما لم يتوهم عالم أنه عني في خبره العام خلاف ما خصه ونصه [ ص: 239 ] .

وأما الخبر الذي بين له على العموم ثم يستثني ما لم يعنه ، فهو قوله : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعقل المؤمنون أن الألف سنة لم يستكملها نوح في قومه قبل الطوفان بقول الله عز وجل : إلا خمسين عاما ، فكان ابتداء لفظه عاما ومعناه خاص بالاستثناء .

وأما الخبر الخاص الذي لا يجري عليه الخبر العام ، فهو كقوله في إبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقال : ورحمتي وسعت كل شيء ، فعقل أهل العلم ، عن الله أنه لم يعن إبليس بقوله : ورحمتي وسعت كل شيء ، لما قدم فيه من الخبر الخاص باليأس من رحمة الله لأن من سنته أن لا يترك الذي لا يعني حتى يخرجه بالاستثناء أو محاشاة ، فيقدم فيه خبرا كقوله : إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين .

قال إبراهيم عليه السلام : إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ، فاستثنى لوطا من أهل القرية ، واستثنى امرأة لوط من آل لوط .

وقال في موضع آخر : إلا امرأته قدرناها من الغابرين وقال [ ص: 240 ] : منجوك وأهلك إلا امرأتك ، فخص المرأة بالهلاك ، وأنزل خبرا مخرجه مخرج عام ، ومعناه خاص ، فقال : إلا آل لوط نجيناهم بسحر ، فعقل المؤمنون عن الله أنه لم يعن امرأة لوط بالنجاة ، لما قدم فيها من الخبر الخاص بالهلكة ، وكذلك حين قدم في نفسه خبرا خاصا ، فقال : وتوكل على الحي الذي لا يموت .

ثم قال : كل نفس ذائقة الموت لم يكن لأحد أن يتوهم على الله أنه عنى نفسه ، وكذلك حين قدم في قوله خبرا خاصا ، فقال : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، فدل على قوله باسم معرفة وعلى الشيء باسم نكرة فكانا شيئين متفرقين ، فقال : إذا أردناه ولم يقل : إذا أردناهما ولم يقل أن يقول لهما ثم قال كن فيكون ، ففرق بين القول والشيء المخلوق .

ثم قال : خالق كل شيء ، فعقل أهل العلم عن الله أنه لم يعن قوله في جملة الأشياء المخلوقة حين قدم فيه خبرا أنه خلق الأشياء بقوله ، وإنما غلط بشر يا أمير المؤمنين ومن قال بقوله بخاص القرآن وعامه .

قال عبد العزيز : " ثم أقبلت على المأمون ، فقلت : يا أمير المؤمنين! إن بشرا خالف كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 241 ] .

فقال : أوفعل ذلك ؟

قلت : " نعم يا أمير المؤمنين ، أوقفك عليه الساعة " .

فقال لي : كيف ؟

قلت : إن اليهود ادعت تحريم أشياء في التوراة ، فقال الله عز وجل : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فإذا تليت التوراة فلم يوجد ما ادعوا ، كان إمساك التوراة مسقطا لدعواهم ، وكذلك يقال لبشر : اتل بما قلت قرآنا وإلا فإن إمساك القرآن بما تدعي مسقط لدعواك ، وكذلك تنظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت معه سنة من رسول الله وإلا كان إمساك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقط لدعواه ، وأما خلافه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أصحاب محمد اختلفوا في الحلال والحرام ومخارج الأحكام ، فلم يخطئ بعضهم بعضا ، فهم من أن يبدع بعضهم بعضا أبعد ، وهم من أن يكفر بعضهم بعضا بالتأويل أبعد ، وبشر ادعى على الأمة كلها كلمة تأولها ، ثم زعم أن من خالفه كافر ، فهو خارج من إجماع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

قال بشر : ما ادعيت إلا نص التنزيل .

قال : " قلت له : هات ، فأنا أول من يقول بقولك إن كان معك تنزيل ومن خالف فكافر .

قال : فقال محمد بن الجهم : أولا تقبل منه إلا نص القرآن ؟ [ ص: 242 ]

قلت : لا ، لأنه إذا تأول فلخصمه أن يتأول معه .

قال : فقال لي محمد بن الجهم : ومن أين لك من القرآن أن هذا الحصير مخلوق ؟

قلت : هو في القرآن من حيث لا تعلم ، وقد أخبر الله أنه خلق الأنعام وخلق الشجرة ، وهذا الحصير من الشجر ومن جلود الأنعام ، فمعك أنت شيء تخبرني أن القرآن من ذلك الشيء الذي خلقه الله ؟

قال بشر : معي نص القرآن .

قال : فقلت : فكيف لم تأتني به أولا حين قلت لك : ارمني بأحد سهم في كنانتك ؟

قال : فقال نعم ، قول الله عز وجل : إنا جعلناه قرآنا عربيا .

قلت : لا أعلم أحدا من المؤمنين لا يقول إن الله قد جعل القرآن عربيا وكل المؤمنين يقولون : إن الله قد جعل القرآن عربيا ، فقد قالوا معك بالتنزيل ولم يخالفوا التنزيل ، وأنت إنما كفرت القوم بمعنى جعل لأن معنى جعل عندك معنى خلق .

قال بشر : ما بين جعل وخلق فرق .

قلت لبشر : أخبرني عن جعل عندك حرف محكم لا يحتمل إلا معنى خلق ؟

قال : نعم ، لا يعقل جعل في لغة من اللغات إلا معنى خلق [ ص: 243 ] .

قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، معناه معنى خلقتم ؟ أخبرني عن قول الله عز وجل : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، معناه : لا تخلقوا ؟ أخبرني عن قوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . معناه : لا تخلقوا ؟ .

قال : فقال لي المأمون : فما معناه ؟

قال : قلت : يا أمير المؤمنين! هذا رجل جاهل بلغة قومك ، إن جعل في كتاب الله يحتمل معنيين : معنى خلق ، ومعنى تصيير غير خلق ، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنيين ، ولم يكن من صناعة العباد ، لم يتعبد الله الخلق به ، فيقول : اخلقوا أو لا تخلقوا ، إذ لم يكن الخلق من صناعة المخلوقين ، ولما كان جعل يحتمل معنيين : معنى خلق وهو معنى تفرد الله به دون الخلق ، ويحتمل معنى غير الخلق ، خاطب الخلق بالأمر به والنهي عنه ، أفقال : اجعلوا ولا تجعلوا ؟

ألم تسمع إلى قوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا وقوله : واجعلوا بيوتكم قبلة ، ولما كان جعل يحتمل معنيين من الله : معنى خلق ، ومعنى تصيير غير خلق ، لم يدع ذلك لبسا على المؤمنين [ ص: 244 ] حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا ، ففرق بين معنى جعل الذي يكون على معنى خلق وبين جعل الذي معناه غير معنى خلق ، فأما معنى جعل الذي هو على معنى خلق ، فإن الله عز وجل أنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون ، وأنزل القول مفصلا يستغني السامع إذا أخبر عنه أن يوصل الكلمة بكلمة أخرى من ذلك قوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فسواء ، قال : جعل أو خلق .

وقوله : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة .

وقوله : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهذا وما كان على مثاله على معنى خلق .

وأما جعل الذي معناه على غير معنى الخلق فهذا من القول الموصل ، ألم تسمع إلى قوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ، كقوله [ ص: 245 ] : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فلما قال : جعلناك خليفة لم يدع الكلمة إذ لم تكن على معنى خلق حتى وصلها بقوله : خليفة .

وقوله : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، فلم يأمرها أن تلقيه في اليم إلا وهو مخلوق ، ثم قال : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فقد كان في وقت مخلوقا ولم يكن مرسلا حتى جعله مرسلا .

وقوله : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ، وقد كان الجبل مخلوقا قبل أن يجعله دكا ، فهذا وما على مثاله من القول الموصل ، فنرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين ، فيما اختلفنا فيه من قول الله : إنا جعلناه قرآنا عربيا ، فما كان من القول الموصل ، فهو كما قلت أنا : إن الله جعله عربيا ، بأن صيره عربيا ، وأنزله بلغة العرب ، ولم يصيره أعجميا فينزله بلغة العجم .

وإن كان الموصل كقوله : وجعل الظلمات والنور ، فهو كما قال بشر .

وإنما دخل عليه الجهل لقلة معرفته بلغة أهل اللسان ، فلو أن رجلا ، قال : اللهم اجعل لي ولدا ، لكان يعقل من بحضرته أنه سأل ربه أن يخلق له ولدا ، إذ لم يصل الكلمة بكلمة ثانية ، ولو ، قال : اللهم اجعل ولدي ، كان هذا الكلام لا يتم [ ص: 246 ] بهذا الإخبار عنه ، حتى يقول : اجعله صالحا ، اجعله بارا ، اجعله تقيا ، فيعقل عنه أنه إنما أراد أن يصيره بارا ، ولم يرد أن يخلقه ، لأن الله قد خلقه .

ألم تسمع إلى قول الله : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك .

ولم يرفعا القواعد إلا وهما مخلوقان ، وحين قالا : واجعلنا ، لم يدركا المسألة حتى قال : مسلمين لك . فهذا وما كان على أمثاله في القرآن على غير معنى الخلق .

ثم أقبل المأمون على بشر ، فقال : كلم عبد العزيز ، فقال : يا أمير المؤمنين! لم أكلمه ؟ هذا رجل يقول بالأخبار وأنا أقول بالقياس .

فقال له المأمون : وهل ديننا إلا الأخبار ؟

قال : فأردت أن أعلمه أن الكلام في القياس لم يفتني في الموضع الذي يجب لي القول به ، وكان جلس أمير المؤمنين مجلس الحاكم من الخصم ، فقلت : يا أمير المؤمنين لو كان لبشر غلامان ، وأنا لا آخذ علمهما عن أحد من الناس إلا عنه ، يقال لأحدهما خالد والآخر يزيد ، فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها : ادفع هذا الكتاب إلى خالد غلامي ، [ ص: 247 ] وكتب إلي مائة وأربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب منها : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ، ولا يقول : غلامي ، وكتب إلي كتابا ، فقال : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد وإلى خالد غلامي ، وكتب إلي كتابا واحدا يقول فيه : خالد غلامي ويزيد ، ولم يقل : غلامي ، فكتب إليه : إني قد دفعت الكتاب إلى يزيد ، وإلى خالد غلامك ، فلقيني فقال : لم لم تكتب إلي أنك دفعت الكتاب إلى خالد ويزيد غلامي ، فقلت له : قد كتبت إلي مائة كتاب وأربعة وخمسين كتابا تقول : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ، ولا تقول فيها : غلامي ، وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا تقول فيها : إلى خالد غلامي .

فقال لي بشر : فرطت ، فحلفت أنا : إن بشرا فرط وحلف بشر أني فرطت ، أينا كان المفرط يا أمير المؤمنين ؟

فقال المأمون : إذا كان هكذا ، فبشر المفرط .

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل أخبرنا عن ذكر القرآن في أربعة وخمسين ومائة موضع ، فلم يخبر عن خلقه في موضع واحد ، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد ، فقال : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ، ففرق بين القرآن والإنسان ، وزعم بشر أن الله فرط في الكتاب ، إذ كان القرآن مخلوقا ، وعليه أن يخبر بخلق القرآن .

قال عبد العزيز : فأخبرني أبو كامل الخادم أن المأمون كان يقول : ما مر بكم مثل المكي قط في خالد ويزيد [ ص: 248 ] .

فأمر له يعني : لعبد العزيز بعشرة آلاف درهم ، وأمر أن تجري له الأرزاق ، وجرت بينه وبين المأمون بعد أشياء لم تذكر في هذا الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية