صفحة جزء
69 - أخبرني أبو بكر محمد بن الحسين بمكة ، قال : حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي الجصاص ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : سمعت الشافعي يقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر ، وعمر [ ص: 323 ] وعثمان ، وعلي رحمهم الله . [ ص: 324 ] [ ص: 325 ] [ ص: 326 ] [ ص: 327 ] [ ص: 328 ] [ ص: 329 ] [ ص: 330 ] [ ص: 331 ] [ ص: 332 ] [ ص: 333 ] [ ص: 234 ] [ ص: 235 ] [ ص: 236 ] [ ص: 237 ] [ ص: 238 ]

قال الشيخ : فهذه خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين على مراتبهم ومنازلهم ، حقق الله الكريم فيهم أخباره ، وتم أمره ، ونجز وعده ، وخرجت أفعالهم وأحوالهم موافقة لوعد الله فيهم ، ووصفه لهم ولأخبار رسول الله وسنته .

وقامت الحجة على الرافضة الضالة ، والخوارج [ ص: 339 ] المبتدعة ، من كتاب الله ، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن إجماع عدول الأمة ، وإجماع جميع أهل العلم في جميع البلدان والأمصار والأقطار ، لا يمكن دفعه ولا ينكر صحته إلا بالكذب والبهتان ، واختلاق الزور والعدوان ، ولأنا قد ذكرنا من فضل كل واحد منهم ، ومما جاء فيه من الفضائل العظيمة ، والأخلاق الشريفة ، والمناقب الرفيعة ، الدالة على موجبات خلافته وإمامته ، وكل ذلك فمن كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن إجماع أهل القبلة في جميع أقطار الأرض وأمصارها ، وفي بعض ذلك كفاية وشفاء لأهل الإيمان .

فأما من طلب الفتنة ، وحشي قلبه بالغل ، ورمى بالحسد والعداوة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان دينه دنياه ، ومعبوده هواه ، وحجته البهتان ، وشهوته العدوان ، وغلبت عليه حمية الجاهلية وعصبية العامية ، وسبقت فيه الشقاوة ، فليس لمرض قلبه دواء ، ولا يقدر له على عافية ولا شفاء ، فإن في الناس من تغلب عليه الشقاوة ، وصلابة القلب والقسوة ، [ ص: 340 ] حتى يطعن في خلافة أبي بكر ، وعمر ، ومنهم من يطعن في خلافة عثمان ، وعلي ، ومنهم من يطعن في خلافة علي عليه السلام ، وكل ذلك فمقالات رديئة ، صدر أهلها فيها عن آراء دنية ، وقلوب عمية ، وألباب صدية وأحلام سخيفة ، وعقول خفية ، اتبعوا فيها الهوى وآثروا فيها الدنيا . [ ص: 341 ]

وبالحري ، أن نذكر الآن من مجمل القول ما دل على جهل أصحاب هذه المقالات ، وقبح مذاهب أهل الجهالات ، مما دلنا عليه سلفنا وأئمتنا ، وعدلت في الشهادة ، ووضحت به الدلالة ، من الكتاب المنزل وما قاله النبي المرسل .

فنقول : إنا وجدنا الأمم السالفة ، والقرون الماضية من أهل الكتب المختلفة ، ومن كان بعدهم من الباقين والغابرين ، مجمعين لا يختلفون ، ومتفقين لا يتنازعون أنه لم يكن نبي قط في زمان من الأزمان ، ولا وقت من الأوقات ، قبضه الله تعالى إلا تلاه وخلفه نبي بعده ، يقوم مقامه ، ويحيي سنته ، ويدعو إلى دينه وشريعته ، فإن لم يكن نبي يتلوه فأفضل أهل زمانه ، لا ينكر ذلك أحد من الأمم .

فكان إبراهيم ، ثم خلفه إسحاق من بعده ، ثم كان بعد إسحاق يعقوب ، فكان في عقب كل نبي نبي أو رجل يتلوه أفضل أهل زمانه ، ثم كان موسى فقام من بعده يوشع بن نون ، ثم [ ص: 242 ] كان داود فقام من بعده سليمان ، ثم بعث الله عيسى ثم رفعه إليه ، فقام من بعده حواريوه الذين دعوا إلى الله ، وكان أفضل حوارييه الذين دعوا إلى الله وكان أفضل حوارييه الذين جمعوا الإنجيل وهم أربعة نفر فكانوا هم القائمين لله بدينه وبكتابه ، [ ص: 243 ] وبخلافة عيسى من بعده في أمته ، وكان بقية الحواريين لهم تابعين ، وبفضلهم مقرين ، ولهم طائعين ، فقبلوا جميع الإنجيل عنهم دون سائرهم ، ولما مضت سنة الله تعالى في أنبيائه ، وجرت فيهم عادته ، أنه لا يقبض نبيا إلا خلفه نبي أو من اختاره الله من أفاضل أهل زمانه ، من الأئمة الراشدين المهديين ، بدلا من الأئمة المرسلين ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، فلا نبي بعده ولا كتاب ينزل ، لم يجز إلا أن يكون بعده إمام يقوم مقامه ، ويؤدي عنه ، ويجمع ما شذ ويرد من ند ، ويحوط [ ص: 244 ] الإسلام ويقوم بالأحكام ، ويذب عن الحريم ويغزي بالمسلمين ، ويجاهد الكافرين ، ويقمع الظالمين وينصر المظلومين ، ويقسم الفيء بين أهله ، ويقوم بما أوجب الله [ ص: 345 ] على الإمام القيام به ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإقامة مواسم الحج ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتسوية بين المسلمين في حقوقهم بالقسط والعدل ، وتسويتهم بنفسه فيما وجب عليه من حقوقهم ، وتركه الاستيثار عليهم في صغير الدنيا وكبيرها . فإنه لم يجز أن يكون القيم بذلك المتكفل به بعقب النبوة ، وتالي صاحب الشريعة ، إلا من هو خير أهل زمانه ، وأفضلهم ، وأتقاهم ، وأعلمهم بسياسة الأمة وحياطة المسلمين والرأفة بهم ، والرحمة لهم ، لأنه قد استيئس من رسول يبعث ، أو نبي يأتي ، فيقول قد أخطأتم بولايتكم فلانا ، وجهلتم حين عدلتم عن فلان ، ولا كتاب ينزل كما كان في الأمم السالفة والقرون الماضية ، وكانت هذه الأمة هي خير الأمم التي أخرجها الله للناس ، وهي آخر الأمم ، وجعل أهلها هم الشهداء على الناس ، وجعل الرسول عليهم شهيدا . [ ص: 346 ]

كما قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ثم ، قال : وكذلك جعلناكم أمة وسطا يعني : عدلا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ثم ، قال : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء فلم يكن الله ليمدح هذه الأمة بالخيرة ، ويجعلها شاهدة على غيرها ، ويصفها بالعدالة ، مع ما نعتها به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإيمان به ، فلم يكن تعالى ليمدح هذه الأمة بالخير الكثير ، ويفضلها [ ص: 347 ] على جميع الأمم الماضية ، ويجعل نبيها خير المرسلين وخاتم النبيين ، ثم يفضل سائر الأمم عليها وجميع الأنبياء على نبيها ، بأن يجعل في عقب كل نبي نبيا مثله ، أو رجلا من أمته هو خيرها وأفضلها ، يخلف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمته ، ويدعوهم إلى شريعته ، يجعل خلف هذا النبي الفاضل في هذه الأمة الخيرة شر أهل زمانه ، وأضل أهل عصره كما زعمت هذه الفرقة الضالة التي طعنت في خلافة أبي بكر ، وقالت : إن الخليفة [ ص: 348 ] الذي قام بعقب نبينا ضال ، وأن الأمة التي قال الله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس إنها شر أمة أخرجت للناس ؛ لأنهم ضلال كفار إذ بايعوا ضالا ، وكانت جميع الأمم قبلهم أفضل منهم ، إذ قام بعقب كل نبي نبي ، أو أفضل أهل زمانه ، وقام بعد نبينا - بزعم الرافضة - أضل أهل زمانه يتلوه ويتبعه ، وتابعته الأمة كلها على ذلك منذ يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا ؛ لأن البيعة انعقدت بعد النبي صلى الله عليه وسلم الضال بايعه ضلال ، والناس كلهم على آثارهم يهرعون . [ ص: 249 ]

فعلى ما أصلت الرافضة لأنفسها من دينها ، وانتحلته من مذاهبها ، أن هذه الأمة التي أخبر الله أنها خير أمة أخرجت للناس ، هي شر أمة أخرجت للناس ؟ وأن الأمة التي جعلها الله وسطا لتكون الشاهدة على الناس هي المشهود عليها ؟ ! ، وأن النبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين ؛ لأن الذين آمنوا به في حياته وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون : كفروا به بعد وفاته ، وخالفوه وجحدوه ، وأجمعوا كلهم على ضلالة بعده ، ثم قفا الناس أثرهم ، فضلوا بضلالتهم ، وكفرت الأمة كلها باتباعهم ، فبطل عند الرافضة أمر الله ، وكذبت أخبار الله ، واستحال [ ص: 250 ] وجود صحة كتاب الله فيما أثنى عليهم فيه ، حيث يقول : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا .

فقالت الفرقة المفترية على الله : يبتغون ظلما وطغيانا ، وكفرا وآثاما : تعالى عما تقوله الرافضة علوا كبيرا .

وقال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار .

وقال تعالى : لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات .

وقال تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا . [ ص: 351 ]

فقدم الله الرضى عنهم لما علم من قلوبهم أنها خير قلوب البرية بقوله : فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم لما علم من صحة قلوبهم ، ثم أخبر بعاقبة أمرهم ، وآخر مصيرهم ، وما أعده لهم ، فقال : وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ثم وصف أعمالهم وأقوالهم ، في حركاتهم وسكونهم وقيامهم وقعودهم ، وهممهم وعزومه ، وما هم لله سائلون ومنه طالبون ، ثم وصف استجابته لهم ، وحفظه لأعمالهم ، وجميل صنيعه بهم ، ذكرا يفهم ، وأثابهم ، ومكافأته لهم بأحسن المكافأة ، وأجزل المجازاة ، فقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .

ثم ما زالوا دواما وإلحاحا حتى استجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم إلى قوله : فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . [ ص: 352 ]

فيلزم من طعن في خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، أو طعن على من بايعهم واتبعهم أن يقول : إن الله تبارك وتعالى - عما تقوله هذه الفرق الضالة - علوا كبيرا ، أن يقولوا : إن الله أثنى عليهم بما جهله من أمر عاقبتهم ، وذلك أنه قدم الوعد لهم وهو لا يعلم أنهم ينكثون ويجورون ، فيكفرون ، وأنه رفع السكينة من قلوبهم لكفر في قلوبهم حتى قالت الخوارج الضالة في علي عليه السلام ما قالته وكفرته . وقالت المبتدعة المتأخرة فيه رضي الله عنه ما قالته مما قد رفعه الله عنه ونطق القرآن به ، وجاءت السنة بخلافه .

وقالت المبتدعة في خلافة أبي بكر ما قالته حتى كفرته . [ ص: 353 ]

وكفرت الذين عقدوا خلافة أبي بكر وبايعوه وكفى بقائل هذه المقالة من الفريقين شناعة وبشاعة ، فإنها ألزمت أنفسها - جهلا وبغيا وعدوانا ، وسلكت طريقا موحشا مغورا مهلكا غير مستقيم ولا مسلوك - بأن قالوا : إن الله لم يعلم عاقبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى ماذا يصيرون ، ولا ما هم عاملون ، حتى أثنى عليهم بما لا يستحقون ، ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .

فزعمت هذه الفرق الشاردة عن الدين ، والمفارقة لجماعة [ ص: 354 ] المسلمين ، أن الصحابة غيروا وبدلوا وكفروا ، فالجنان التي وعدهم الله أنهم فيها خالدون إنهم إليها لا يصلون ، وفيها لا يسكنون ، فنعوذ بالله من الحيرة ، والعمى والضلالة بعد الهدى ، وأن نقول على الله ما لم يقل ، ونلزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما وعدهم ، وأن نكذب الله فيما وصفهم به ، وأن نقول بقول هذه الفرق المذمومة الذين أدخلوا في أخبار القرآن التناقض ، وجهلوا الله تعالى إذ أعد لمن يكفر به ويرتد عن دينه جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .

وبعد فإنه لا يخلو ما ألزموه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من [ ص: 355 ] السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان الذين قدم الله فيهم الوعد ، وأخبرهم بما أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، فلا يخلو أن يكون فرض الرضا وإعداد الجنات وهو يعلم أنهم يكفرون ، أو لا يعلم أنهم يكفرون ؟

فإن كان يعلم أنهم يكفرون ببيعتهم أبا بكر ، فقد قدم الرضا عن قوم ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وهو عالم أنهم يكفرون ، أو يكون قدم لهم هذا الوعد وهو لا يعلم بما هم عاملون .

فكفى بقائل هذه المقالة جحدا وكفرا .

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يكون في أمتي قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة ، أين وجدتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون " قيل : يا رسول الله وما صفتهم ؟ ، قال : " يشتمون السلف ويطعنون عليهم " . [ ص: 356 ] [ ص: 357 ] [ ص: 358 ] [ ص: 359 ]

حدثنا أبو بكر محمد بن بكر ، قال : قال محمد بن عطية السامي : " لو كان على مذهب القياس بزعمهم - يعني الرافضة - أن الحق كان لعلي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه ، فقعد وقام غيره به يتلو رسول الله ، فقام بأمره ، ووضع الحق في موضعه ، فالقياس يلزم لو كان رجلا غير أبي بكر قام مقام أبي بكر ؛ لأن أمر الله تعالى ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم تقدم في أبي بكر ، فقعد عن أمر الله ، فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بهذا الأمر قيام أبي بكر حتى ينفذ أمر الله ، ويعدل فيه عدل أبي بكر ، ويقوم بطاعة الله إذ ضيعها أبو بكر ، كان بذلك أحق في القياس منه ، لقيامه بأمر الله تعالى ، وشدته في طاعة الله ، وكان استخلافه لذلك دون من ضيعها في المعقول والقياس ، كان أكبر رأيا وأحسن توقعا في أمر الله تبارك وتعالى " . ومعاذ الله أن يكون ابن أبي طالب لأمر الله مضيعا ، أو لحق الله تاركا ، أو عن طاعة الله عاجزا ، ولقد خطب علي رضي الله عنه فتبرأ من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بشيء من ذلك ، وقد تقدم ذكر الخطبة في هذا الجزء من هذا الكتاب . [ ص: 360 ]

ولقد كان علي من أقوى الناس في الله ، وأعقل من أن يضيع أمر الله ، أو يخالف رسول الله وهو يقرأ : فليحذر الذين يخالفون عن أمره . . . الآية ، وقد تقدم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باستخلاف علي في وقته بالنص والدلائل [ ص: 361 ] [ ص: 362 ] التي بيناها وشرحناها في ذكر خلافته في هذا الكتاب - والله أعلم . [ ص: 363 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية