صفحة جزء
427 - وذكر الواقدي ما ذكره عروة والزهري ومحمد بن إسحاق وزاد تفصيلا وأشياء في جملتها بيان ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اليهود ، وثبوت نعته وصفته في التوراة عندهم ، وقال : لما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت ، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا ، اجلس نطعمك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم .

ثم خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا ، فقال حيي بن أخطب : يا معشر اليهود قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم في نفير من أصحابه لا يبلغون عشرة ، وكان معهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة ، فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت فاقتلوه ، فلا تجدونه أخلى منه الساعة ، فإنه إن قتل تفرق أصحابه ، فلحق من كان معه من قريش ، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج ، فالأوس حلفاؤكم ، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن .

قال عمرو بن جحاش بن كعب النضيري أنا أظهر على هذا البيت ، فأطرح عليه صخرة .

قال فقال سلام بن مشكم : يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني [ ص: 492 ] الدهر ، والله لئن فعلتم فإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه ، فلا تفعلوا فوالله إن فعلتم الذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى قيام الساعة ، فيذل اليهود ، ويظهر دينه ، وقد هيأ عمرو بن جحاش الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدحرجها ، فلما أشرف بها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما هموا به ، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا كأنه يريد حاجة ، وتوجه إلى المدينة ، وجلس أصحابه يتحدثون ، وهم يظنون أنه قام يقضي حاجته ، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر : ما مقامنا هاهنا لشيء لقد توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر .

قال حيي بن أخطب : عجل أبو القاسم ، كنا نريد أن نقضي حاجته ونغديه .

وندمت اليهود على ما صنعوا ، فقال لهم كنانة بن صوريا هل تدرون لم قام محمد ؟ قالوا : لا والله ما ندري ؟ ولا تدري أنت قال : بلى والتوراة ، إني لأدري قد أخبر محمد بما هممتم به من الغدر ، فلا تخدعوا أنفسكم ، والله إنه لرسول الله ، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به ، وإنه لآخر الأنبياء ، كنتم تطمعون أن يكون من بني هارون ، فجعله الله عز وجل حيث شاء ، وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل أن مولده بمكة ، وأن هجرته بيثرب ، وصفته بعينها ما تخالف ما في كتابنا ، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين تتناغى صبيانكم ، قد تركتم دوركم خلوفا ، وأموالكم إنما هي شرفكم ، فأطيعوني في خصلتين والثالثة لا خير فيها . [ ص: 493 ] قالوا : ما هما ؟ .

قال : تسلمون وتدخلون مع محمد صلى الله عليه وسلم فتأمنون على أموالكم وأولادكم ، وتكونون من علية أصحابه ، وتبقى بأيديكم أموالكم ، ولا تخرجون من دياركم .

قالوا : لا نفارق التوراة وعهد موسى .

قال : فإنه مرسل إليكم اخرجوا من بلدي ، فقولوا نعم ، فإنه لا يستحل لكم دما ولا مالا ، فتبقى أموالكم ، إن شئتم بعتم ، وإن شئتم أمسكتم .

قالوا : أما هذه فنعم .

قال : أما والله إن الأخرى خيرهن لي .

قالوا : ما هي ؟

قال : أما والله لولا أني أفضحكم أسلمت ، ولكن لا تعير الشعثاء بإسلامي أبدا حتى يصيبني ما أصابكم - والشعثاء ابنته التي كان حسان بن ثابت يشبب بحسنها - .

وقال سلام بن مشكم قد كنت لما صنعتم كارها ، وهو مرسل إلينا : أن اخرجوا من داري ، فلا تعقب يا حيى كلامه ، وأنعم له بالخروج ، فاخرج من بلاده ، فقال : أفعل .

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تبعه أصحابه فلقوا رجلا خارجا من المدينة ، فسألوه : هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، لقيته داخلا .

فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه وقد أرسل إلى محمد بن مسلمة [ ص: 494 ] يدعوه ، فقال أبو بكر : قمت يا رسول الله ولم نشعر .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : همت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله تعالى بذلك .

وجاء محمد بن مسلمة ، وقال : اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم برسالة ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم بشيء تعرفونه .

قالوا : ما هو ؟

قال : أنشدكم بالتوراة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام ، هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبينكم التوراة فقلتم في مجلسكم هذا يا ابن مسلمة إن شئت أن نغديك غديناك ، وإن شئت نهودك هودناك ، فقلت : غدوني ولا تهودوني ، والله لا أتهود أبدا ، فغديتموني في صحفة ، لكأني أنظر إليها ، فقلتم لي : ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود ، لكأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها ، أما إن أبا عامر الراهب ليس بصاحبها ، إنما صاحبها الضحوك القتال في عينيه حمرة ، ويأتي من قبل اليمن ، ويركب البعير ، ويلبس الشملة ، ويحتزئ بالكسرة ، وسيفه على عاتقه ، ليس معه آية ، ينطق بالحكمة ، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب ومثل وقتل .

قالوا : اللهم نعم ، قد قلنا ذلك ، ولكن ليس به .

قال محمد بن مسلمة : إذن قد عرفتم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أرسلني إليكم ، يقول لكم : قد نقضتم الذي جعلت لكم بما هممتم من الغدر بي ، وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش لطرح [ ص: 495 ] الصخرة ، فأسكتوا ، فلم يقولوا حرفا ، ويقول : اخرجوا من بلدي فقد أجلتكم عشرا فمن بقي بعد ذلك ضربت عنقه .


وساق الحديث إلى أن قال :

فقال حيي : أنا أرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا فليصنع ما بدا له .

وقال سلام بن مشكم : منتك نفسك يا حيي بالباطل ، إني والله لولا أن أسفه رأيك وأن يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود ، فلا تفعل يا حيي ، فوالله إنك لتعلم ، ونعلم معك ، أنه لرسول الله ، وإن صفته عندنا ، وإن لم نتبعه حسدناه حين خرجت النبوة من بني هارون ، فتعال فلتقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده ، فقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به ، فإذا كان أوان الثمر جئنا ، أو جاءه من جاء منا إلى ثمره فباعها وصنع ما بدا له ثم انصرف إلينا ، فكأنما لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا .


وساق الحديث إلى أن ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم .

وقالوا : نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أقبله اليوم ، ولكن اخرجوا منها ، ولكم ما حملت الإبل واللأمة .

فقال سلام بن مشكم : اقبل ، ويحك ، قبل أن يعمل شرا من هذا .

قال حيي : ما يكون شرا من هذا !

[ ص: 496 ] قال سلام : يسبي الذرية ، ويقتل المقاتلة .

فأبى حيي أن يقبل يوما أو يومين ، فلما رأى ذلك يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب قال أحدهما لصاحبه : والله إنا لنعلم أنه لرسول الله ، فما ننتظر أن نسلم ، فنأمن على دمائنا وأموالنا ، فنزلا من الليل فأسلما وأحرزا أموالهما .


التالي السابق


الخدمات العلمية