صفحة جزء
الفصل الواحد والثلاثون في رواية خبرين يشتملان على جمل من صفاته البديعة ، وأخلاقه الحميدة الرفيعة ، وأحواله العجيبة العظيمة ، وما يتضمن ذلك من آدابه وسننه وشرائعه الموافقة لقضايا المعقول في الصحة والجواز

اقتصرنا من ذكر أخلاقه وصفاته على هذين الخبرين :

565 - حدثنا سليمان بن أحمد قال ثنا علي بن عبد العزيز قال ثنا مالك بن إسماعيل النهدي . وثنا أبو بكر الطلحي ، قال ثنا إسماعيل بن محمد المزني قال ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ثنا جميع بن عمير بن عبد الرحمن العجلي قال حدثني رجل بمكة عن ابن أبي هالة التميمي :

[ ص: 628 ] عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال : سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي وكان وصافا عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأني أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر إن انفرقت عقيصته فرق وإلا فلا ، يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، بادن متماسك ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، سبط القصب شثن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال قلعا ، يخطو تكفيا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، يبدأ من لقي بالسلام .

[ ص: 629 ] قلت : صف لي منطقه ؟ قال : كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، كلامه فصل لا فضول ولا تقصير ، دمث ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم منها شيئا ، لا يذم ذواقا ، ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، وإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، لا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها ، فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام .

قال : فكتمتها الحسين زمانا ، ثم حدثته ، فوجدته قد سبقني إليه ، فسأله عما سألته عنه ، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله فلم يدع منه شيئا .

قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال : كان دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه مأذونا له في ذلك ، فكان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء ، جزءا لله عز وجل ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزءا جزأه بينه وبين الناس ، ويرد ذلك إلى العامة ولا يدخر عنهم شيئا ، فكان من سيرته في جزء الأمة : إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو [ ص: 630 ] الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألتهم عنه ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : " ليبلغ الشاهد الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة " ولا يذكر عنده إلا ذاك ، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة .

قال : فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟

فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا يفرقهم ، أو قال : ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .

فسألته عن مجلسه ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها ، إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا [ ص: 631 ] يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تثنى فلتاته ، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذوي الحاجة ، ويحفظون الغريب .

قال : قلت كيف كانت سيرته في جلسائه ؟ .

قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مزاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يوئس منه راجيه ولا يخيب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ؛ وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة من منطقه ومسألته ، حتى إن أصحابه ليستجلبونهم ويقول : إذا رأيتم طالب حاجة [ ص: 632 ] يطلبها فأرشدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز ، فيقطعه بنهي أو قيام .

قال ، قلت : كيف كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

قال : كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع ، على الحلم ، وعلى الحذر ، والتقدير ، والتفكر ؛ فأما تقديره : ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس ، وأما تذكره : أو قال تفكره ، ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه ، وجمع الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه للقبيح ليتناهى عنه ، واجتهاد الرأي فيما أصلح أمته ، والقيام فيما يجمع لهم الدنيا والآخرة .

حدثنا سليمان بن أحمد ثنا علي بن عبد العزيز قال سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول :

المشذب : المفرط في الطول وكذلك هو في كل شيء ، قال جرير :


ألوي بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال



قوله رجل الشعر : الذي ليس بالسبط الذي لا تكسر فيه ولا القطط الشديد الجعودة ، يقول هو جعد بين هذين .

والعقيصة : الشعر المعقوص وهو نحو من المظفور ، ومنه قول عمر رضي الله عنه (من لبد أو عقص أو ظفر فعليه الحلق) .

وقوله أزج الحواجب سوابغ : الزجج في الحواجب : أن يكون فيها [ ص: 633 ] تقوس مع طول في أطرافها ، وهو السبوغ فيها ، قال جميل بن معمر :


إذا ما الغانيات برزن يوما     وزججن الحواجب والعيونا



وقوله في غير قرن : القرن التقاء الحاجبين حتى يتصلا ، يقول : ليس هو كذلك ، ولكن بينهما فرجة ، يقال للرجل إذا كان كذلك أبلج ، وذكر الأصمعي أن العرب تستحب هذا .

وقوله بينهما عرق يدره الغضب : يقول ، إذا در العرق الذي بين الحاجبين ، ودروره : غلظه ونتوؤه وامتلاؤه .

قوله أقنى العرنين : يعني الأنف يكون فيه دقة مع ارتفاع في قصبته ، يقال منه رجل أقنى وامرأة قنياء .

والأشم : أن يكون الأنف لا قنا فيه .

وقوله كث اللحية : الكثوثة أن تكون اللحية غير دقيقة ولا طويلة ، ولكن فيها كثافة من غير عظم ولا طول .

وقوله ضليع الفم : أحسبه يعني خلة في الشفتين .

وقوله أشنب : الأشنب هو الذي في أسنانه رقة وتحدد يقال منه : رجل أشنب وامرأة شنباء . ومنه قول ذي الرمة :


لمياء في شفتيها حوة لعس     وفي الثنايا وفي أنيابها شنب



والمفلج : الذي في أسنانه تفرق .

[ ص: 634 ] والمسربة : الشعر بين اللبة إلى السرة ، شعر يجري كالخط . قال الأعشى :


الآن لما ابيض مسربتي     وعضضت من نابي على جذم



وقوله جيد دمية : الجيد : العنق ، والدمية : الصورة .

وقوله ضخم الكراديس : اختلف الناس في الكراديس فقال بعضهم : هي العظام ، ومعناه أنه عظيم الألواح ، وبعضهم يجعل الكراديس رؤوس العظام ، والكراديس في غير هذا الكتاب .

الزندان : العظمان اللذان في الساعدين المتصلان بالكفين ، وصفه بطول الذراع .

سبط القصب : القصب : كل عظم ذي مخ ، مثل العضدين والذراعين ، وسبوطها : امتدادها ، يصفه بطول العظام .

وقوله شثن الكفين والقدمين : يريدان : فيهما بعض الغلظ .

والأخمص من القدم : في باطنها ما بين صدرها وعقبها وهو الذي لا يلصق بالأرض من القدمين في الوطء .

قال الأعشى يصف امرأة بإيطائها في المشي :


كأن أخمصها بالشوك منتعل



وقوله خمصان الأخمصين : يعني أن ذلك الموضع من قدميه في تجاف عن الأرض وارتفاع ، وهو مأخوذ من خموصة البطن ، وهي ضمرة ، ومنه يقال رجل خمصان وامرأة خمصانة . [ ص: 635 ]

وقوله مسيح القدمين : يعني أنهما متساويتان ملساوان ليس في ظهورهما تكسر ، ولهذا قال : ينبو عنهما الماء ، يعني أنه لا ثبات للماء عليهما .

وقوله إذا خطا تكفأ : يعني التمايل ، أخذه من تكفي السفن .

وقوله ذريع المشية : يعني واسع الخطا .

كأنما ينحط من صبب : أراه يريد أنه مقبل على ما بين يديه ، غاض بصره ، لا يرفعه إلى السماء ، وكذلك يكون المنحط ، فسره فقال خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء .

وقوله إذا التفت التفت جميعا : يريد أنه لا يلوي عنقه دون جسده فإن فيه بعض الخفة والطيش .

وقوله دمث : وهو اللين السهل ، ومنه قيل للرجل دمث ، ومنه حديث : أنه كان إذا أراد أن يبول رسول الله صلى الله عليه وسلم مال إلى دمث .

وقوله أعرض وأشاح ، الإشاحة : الجد وقد يكون الحذر .

وقوله يفتر عن مثل حب الغمام : الافترار : أن تكشر الأسنان ضاحكة من غير قهقهة ، وحب الغمام : البرد ، شبه به بياض أسنانه .

قال جرير :


تجري السواك على أغر كأنه     برد تحدر من متون غمام



وقوله يدخلون روادا . الرواد : الطالبون ، واحدهم رائد ، ومنه قولهم : " الرائد لا يكذب أهله " .

وقوله لكل حال عنده عتاد : يعني عدة قد أعد له .

لا يوطن الأماكن : أي لا يجعل لنفسه موضعا يعرف ، إنما يجلس [ ص: 636 ] حيث ينتهي به المجلس ، ومنه حديثه صلى الله عليه وسلم : " نهى أن يوطن الرجل المكان كما يوطن البعير " .

وقوله لا تؤبن فيه الحرم : يقول لا يوصف فيه النساء ، ومنه حديثه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الشعر إذا أبنت فيه النساء .

قال أبو عبيدة ثنا أبو إسماعيل المؤدب عن مجالد عن الشعبي قال : كان رجال في المسجد يتناشدون الشعر فأقبل ابن الزبير فقال : أفي حرم الله وعند بيت الله تتناشدون الشعر ؟ . فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بك بأس يا ابن الزبير إن لم تفسد نفسك ، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر إذا أبنت فيه النساء ، أو تروى فيه الأحوال .

وقوله لا تنثى فلتاته : الفلتات السقطات يتحدث بها ، يقال نثوت أنثو ، والاسم منه النثا ، وهذه الهاء التي في فلتاته ، راجعة على المجلس ، ألا ترى إلى صدر الكلام أنه سأله عن مجلسه ، ويقال أيضا : إنه لم يكن لمجلسه فلتات يحتاج أحد يحكيها ، فلتاته : يريد فلتات المجلس لا يحدث بها بعضهم عن بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية