صفحة جزء
(أنا ) أبو سعيد بن أبي عمرو ، نا أبو العباس ، أنا الربيع ، قال : قال الشافعي (رحمه الله ) : " في قول الله عز وجل : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) ؛ إلى : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، وقوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ؛ دلالة : على أن الله [ ص: 144 ] (عز وجل ) إنما عنى : المسلمين ؛ دون غيرهم ".

ثم ساق الكلام ، إلى أن قال : " ومن أجاز شهادة أهل الذمة ، فأعدلهم عنده : أعظمهم بالله شركا : أسجدهم للصليب ، وألزمهم للكنيسة ".

" فإن قال قائل : فإن الله (عز وجل ) يقول : ( حين الوصية [ ص: 145 ] اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) ؛ أي : من غير أهل دينكم ".

" قال الشافعي : [فقد ] سمعت من يتأول هذه الآية ، على : من غير قبيلتكم : من المسلمين ".

قال الشافعي : " والتنزيل (والله أعلم ) يدل على ذلك : لقول الله تعالى : ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) ؛ والصلاة الموقتة : للمسلمين . ولقول الله تعالى : ( فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري [ ص: 146 ] به ثمنا ولو كان ذا قربى ) ؛ وإنما القرابة : بين المسلمين الذين كانوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) : من العرب ؛ أو : بينهم وبين أهل الأوثان . لا : بينهم وبين أهل الذمة . وقول [الله ] : ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) ؛ فإنما يتأثم من كتمان الشهادة [للمسلمين ] : المسلمون ؛ لا : أهل الذمة ".

قال الشافعي : " وقد سمعت من يذكر : أنها منسوخة بقول الله عز وجل : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ؛ والله أعلم ".

ثم جرى في سياق كلام الشافعي (رحمه الله ) أنه قال : " قلت له : إنما ذكر الله هذه الآية : في وصية مسلم أفتجيزها : في وصية مسلم [ ص: 147 ] في السفر ؟ . قال : لا . قلت : أو تحلفهم : إذا شهدوا . ؟ . قال : لا . قلت : ولم : وقد تأولت : أنها في وصية مسلم . ؟ ! . قال : لأنها منسوخة قلت : فإن نسخت فيما أنزلت فيه - : فلم تثبتها فيما لم تنزل فيه ؟ ! ". .

وأجاب الشافعي (رحمه الله ) - عن الآية - : بجواب آخر ؛ على ما نقل عن مقاتل بن حيان ، وغيره : في سبب نزول الآية .

وذلك : فيما أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، قال : نا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي : " أخبرني أبو سعيد : معاذ بن موسى [ ص: 148 ] الجعفري ؛ ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان (قال بكير : قال مقاتل : أخذت هذا التفسير ، عن : مجاهد ، والحسن ، والضحاك . ) - : في قول الله عز وجل : ( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) الآية . - : أن رجلين نصرانيين : من أهل دارين ؛ أحدهما : تميمي ؛ والآخر يماني ؛ (وقال غيره : من أهل دارين ؛ أحدهما : تميم ؛ والآخر : عدي . ) - : صحبهما [ ص: 149 ] مولى لقريش في تجارة ، فركبوا البحر : ومع القرشي مال معلوم ، قد علمه أولياؤه - من بين آنية ، وبز ، ورقة . - فمرض القرشي : فجعل وصيته إلى الداريين ؛ فمات ، وقبض الداريان المال والوصية : فدفعاه إلى أولياء الميت ، وجاءا ببعض ماله . فأنكر القوم قلة المال ، فقالوا للداريين : إن صاحبنا قد خرج : ومعه مال أكثر مما أتيتمونا به ؛ فهل باع شيئا ، أو اشترى [شيئا ] : فوضع فيه ؛ أو هل طال مرضه : فأنفق على نفسه ؟ . قالا : لا . قالوا : فإنكما خنتمونا . فقبضوا المال ، ورفعوا أمرهما إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) : فأنزل [ ص: 150 ] الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) ؛ إلى آخر الآية . فلما نزلت : ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) : أمر النبي (صلى الله عليه وسلم ) الداريين فقاما بعد الصلاة : فحلفا بالله رب السموات : ما ترك مولاكم : من المال ، إلا ما أتيناكم به ؛ وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا : من الدنيا ؛ ( ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) . فلما حلفا : خلى سبيلهما . ثم : إنهم وجدوا - بعد ذلك - إناء : من آنية الميت ؛ فأخذ الداريان ، فقالا : اشتريناه منه في حياته ؛ وكذبا فكلفا البينة : فلم يقدرا عليها . فرفع ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) : فأنزل الله عز وجل : ( فإن عثر ) ؛ يقول : [ ص: 151 ] فإن اطلع ( على أنهما استحقا إثما ) يعني : الداريين ؛ [أي ] : كتما حقا ؛ ( فآخران ) : من أولياء الميت ؛ ( يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله ) : فيحلفان بالله : إن مال صاحبنا كان كذا وكذا ؛ وإن الذي نطلب - : قبل الداريين . - لحق ؛ ( وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ) . فهذا : قول الشاهدين أولياء الميت : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) ؛ يعني : الداريين والناس ؛ [أن يعودوا لمثل ذلك ] ".

" [قال الشافعي : يعني : من كان في مثل حال الداريين ] : من [ ص: 152 ] الناس . ولا أعلم الآية تحتمل معنى : غير جملة ما قال ".

" وإنما معنى ( شهادة بينكم ) : أيمان بينكم ؛ كما سميت أيمان المتلاعنين : شهادة ، والله تعالى أعلم ". .

وبسط الكلام فيه ، إلى أن قال : " وليس في هذا : رد اليمين ، إنما كانت يمين الداريين : على ما ادعى الورثة : من الخيانة ؛ ويمين ورثة الميت : على ما ادعى الداريان : أنه صار لهما من قبله ".

" وقوله عز وجل : ( أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) ، [ ص: 153 ] فذلك (والله أعلم ) : أن الأيمان كانت عليهم : بدعوى الورثة : أنهم اختانوا ؛ ثم صار الورثة حالفين : بإقرارهم : أن هذا كان للميت ، وادعائهم شراءه منه . فجاز : أن يقال : ( أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) : [تثنى عليهم الأيمان . بما يجب عليهم إن صارت لهم الأيمان ؛ كما يجب على من حلف لهم ] . وذلك قوله - والله أعلم - : ( يقومان مقامهما ) . فيحلفان كما أحلفا ".

" وإذا كان هذا كما وصفت : فليست هذه الآية : ناسخة ، ولا منسوخة ". .

قال الشيخ : وقد روينا عن ابن عباس ، ما دل : على صحة ما قال مقاتل بن حيان .

[ ص: 154 ]

ويحتمل : أن يكون المراد بقوله تعالى : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران ) - : الشهادة نفسها . وهو : أن يكون للمدعي اثنان ذوا عدل - : من المسلمين . - يشهدان لهم بما ادعوا على الداريين من الخيانة . ثم قال : ( أو آخران من غيركم ) ؛ يعني : إذا لم يكن للمدعين : منكم ؛ بينة - : فآخران : من غيركم ؛ يعني : فالداريان - . اللذان ادعي عليهما . - يحبسان من بعد الصلاة . ( فيقسمان بالله ) ؛ يعني . يحلفان على إنكار ما ادعي عليهما ؛ على ما حكاه مقاتل ، والله أعلم .

* * *

[ ص: 155 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية