صفحة جزء
أنا أبو سعيد ، أنا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي [قال ] " قال الله (تبارك وتعالى ) لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( ورتل القرآن ترتيلا ) ، فأقل الترتيل : ترك العجلة في القرآن عن الإبانة . وكلما زاد على أقل الإبانة في القرآن ، كان أحب إلي : ما لم يبلغ أن تكون الزيادة فيه تمطيطا " .

* * *

قرأت في كتاب " المختصر الكبير " - فيما رواه أبو إبراهيم المزني ، عن الشافعي (رحمه الله ) أنه قال : أنزل الله - عز وجل - على رسوله (صلى الله عليه وسلم ) فرض القبلة بمكة، فكان يصلي في ناحية يستقبل منها البيت [الحرام ] ، وبيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة ، استقبل بيت المقدس ، موليا عن البيت الحرام ستة عشر شهرا - : وهو يحب : لو قضى الله إليه باستقبال البيت الحرام ؛ لأن فيه مقام أبيه إبراهيم ، وإسماعيل وهو : المثابة للناس ، والأمن ، وإليه الحج وهو : المأمور به : أن يطهر للطائفين ، والعاكفين ، والركع السجود . مع كراهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وافق اليهود ، فقال لجبريل عليه السلام : " لوددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها " ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) . - يعني (والله أعلم ) ، فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه ، فقال جبريل عليه السلام للنبي (صلى الله عليه وسلم ) " يا محمد أنا عبد مأمور [ ص: 65 ] مثلك ، لا أملك شيئا فسل الله " . فسأل النبي (صلى الله عليه وسلم ) ربه : أن يوجهه إلى البيت الحرام ، وصعد جبريل (عليه السلام ) إلى السماء ، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) يديم طرفه إلى السماء : رجاء أن يأتيه جبريل (عليه السلام ) بما سأل . فأنزل الله - عز وجل - : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) إلى قوله : ( فلا تخشوهم واخشوني ) " .

" في قوله : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) ، يقال : يجدون - فيما نزل عليهم - : أن النبي الأمي - : من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام : - يخرج من الحرم ، وتعود قبلته ، وصلاته مخرجه . يعني : الحرم " .

وفي قوله تعالى : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر [ ص: 66 ] المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ) قيل في ذلك (والله أعلم ) : لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة ، إلا وأنتم مستدبرون بيت المقدس ، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام ، وبيت المقدس - : استقبلتم المسجد الحرام لا : أن إرادتكم : بيت المقدس ، وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام . [ و ] لأنتم كذلك : تستقبلون ما دونه [و ] " وراءه لا إرادة أن يكون قبلة ، ولكنه جهة قبلة " .

" وقيل : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) : في استقبال قبلة غيركم " .

" وقيل : في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها ، إلى غيرها . وهذا أشبه ما قيل فيها (والله أعلم ) - : لقول الله - عز وجل - : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) إلى قوله تعالى : ( مستقيم ) . فأعلم الله نبيه (صلى الله عليه وسلم ) : أن لا حجة عليهم في التحويل يعني : لا يتكلم في ذلك أحد بشيء ، يريد الحجة إلا الذين ظلموا منهم . لا : أن لهم حجة ؛ لأن عليهم أن ينصرفوا عن قبلتهم ، إلى القبلة التي أمروا بها " .

[ ص: 67 ] " وفي قوله تعالى : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ) ؛ لقوله إلا لنعلم أن قد علمهم من يتبع الرسول ، وعلم الله كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء " .

" وقد قال المسلمون : فكيف بما مضى من صلاتنا ، ومن مضى منا ؟

فأعلمهم الله (عز وجل ) : أن صلاتهم إيمان ، فقال : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) الآية " .

" ويقال : إن اليهود قالت : البر في استقبال المغرب ، وقالت النصارى : البر في استقبال المشرق بكل حال ، فأنزل الله (عز وجل ) فيهم : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) .

يعني (والله أعلم ) : وأنتم مشركون ؛ لأن البر لا يكتب لمشرك " .

" فلما حول الله رسوله (صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد الحرام - : [ ص: 68 ] صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أكثر صلاته ، مما يلي الباب : من وجه الكعبة ، وقد صلى من ورائها ، والناس معه : مطيفين بالكعبة ، مستقبليها كلها ، مستدبرين ما وراءها : من المسجد الحرام " .

" قال : وقوله - عز وجل - : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ، فشطره وتلقاؤه وجهته : واحد في كلام العرب " .

واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة .

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس ، أنا الربيع ، أنا الشافعي (رحمه الله ) ، قال : " قال الله - تبارك وتعالى - : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . ففرض عليهم حيث ما كانوا : أن يولوا وجوههم شطره . و " شطره " : جهته في كلام العرب . إذا قلت : " أقصد شطر كذا " : معروف أنك تقول : " أقصد قصد عين كذا " يعني : قصد نفس كذا . وكذلك : " تلقاءه وجهته " ، أي : أستقبل [ ص: 69 ] تلقاءه وجهته . وكلها بمعنى واحد : وإن كانت بألفاظ مختلفة .

قال خفاف بن ندبة :


ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو



وقال ساعدة بن جؤية :


أقول لأم زنباع : أقيمي     صدور العيس ، شطر بني تميم



وقال لقيط الإيادي :


وقد أظلكم من شطر ثغركم     هول له ظلم تغشاكم قطعا



وقال الشاعر :


إن العسيب بها داء مخامرها     فشطرها بصر العينين مسحور



قال الشافعي (رحمه الله ) : يريد : [تلقاءها ] بصر العينين ونحوها - : تلقاء جهتها " . وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين : أن شطر الشيء : قصد عين الشيء : إذا كان معاينا : فبالصواب ، وإن كان [ ص: 70 ] مغيبا : فبالاجتهاد ، والتوجه إليه . وذلك : أكثر ما يمكنه فيه " .

" وقال الله تعالى : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) ، وقال تعالى : ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) .

فخلق الله لهم العلامات ، ونصب لهم المسجد الحرام ، وأمرهم : أن يتوجهوا إليه . وإنما توجههم إليه : بالعلامات التي خلق لهم ، والعقول التي ركبها فيهم : التي استدلوا بها على معرفة العلامات . وكل هذا : بيان ونعمة منه - جل ثناؤه - " .

قال الشافعي : " ووجه الله رسوله (صلى الله عليه وسلم ) - إلى القبلة في الصلاة - إلى بيت المقدس فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استقبال غيرها . ثم نسخ الله قبلة بيت المقدس ، [و ] وجهه إلى البيت . [فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبدا لمكتوبة ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام ] . وكل كان حقا في وقته " . وأطال الكلام فيه .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية