الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
36 - فالذي يقتضيه الترتيب إيضاح الرد على أصحاب النص ، ثم اتباع ما عداه من الآراء بالتنقير والفحص ; فنقول :

النص الذي ادعيتموه ، ونظمتم به عقودكم ، وربطتم به مقصودكم ، بلغكم استفاضة وتواترا ، من جمع لا يجوز [ ص: 31 ] منهم في مستقر العادات ، ومستمر الأوقات ، التواطؤ على الكذب ؟ أم تناقله معينون من النقلة ؟ واستبد به مخصوصون من الحملة ؟ .

فإن زعموا أنه منقول تواترا على الشرائط المذكورة في الاستفاضة أولا ، ووسطا ، وآخرا ، فقد ادعوا عظيمة في مجاحدة البدائه والضرورات ، وانتهوا من البهت والعناد إلى منتهى الغايات .

وقيل لهم : كيف اختصصتم وأنتم الأذلون الأقلون بهذا الخبر دون مخالفيكم ، وكيف انحصر هذا النبأ فيكم ، مع استواء الكافة في بذل كنه المجهود ، في الطلب والتشمير ، والتناهي في ابتغاء المقصود ، واجتناب التقصير ؟ ولو ساغ اختصاص قيام أقوام بدرك خبر شائع ، مستفيض ذائع ، لجاز أن يختص بالعلم بأن في الأقاليم بلدة تسمى ( بغداد ) طوائف مخصوصون ، مع تماثل الكافة في البحث عن المسالك ، والأقاليم والممالك .

وبم ينكرون على من يزعم أنه - عليه السلام - نص على أبي بكر نصا منتشرا في الأقطار ، مطبقا للخطط والديار ؟ .

[ ص: 32 ] 37 - ولسنا نذكر ذلك للاختيار والإيثار ، ولكن المذاهب الفاسدة ، والمطالب الحائدة ، إذا تعارضت تناقضت ، وترافضت ، وبقي الحق المبين ، والمنهج المتين ، أبلج لائحا لأهل الاسترشاد ، وطاحت مسالك العناد .

38 - وإن زعموا أن النص نقله آحاد ، استبان على الارتجال والبديهة خزيهم ، واستوى إثباتهم ونفيهم ، فإن الآحاد لا يعصمون عن الزلل ، بل يتعرضون لإمكان الخطأ والخطل ، فنقلهم لا يقتضي العلم بالمخبر عنه قطعا . فليت شعري كيف علموا النص على القطع مع تجويز خطأ ناقله ، وترجيم الظنون في حامله ؟ ، ثم لا يسلمون عن معارضتهم بنقيض ما اتخذوه معتصمهم من ادعاء النص على أبي بكر ، أو العباس وغيرهما - رضي الله عنهم - . فقد انحلت شكائمهم ، ووضحت أكاذيبهم وعظائمهم ، ومساق هذه الطريقة يشير إلى الرد على من يجنح عن مسلك الحقيقة .

39 - فإن قيل : غايتكم فيما قررتموه وكررتموه ، الرد على من يدعي العلم ، فإن سلم لكم ما رمتموه ، واستتب لكم ما نظمتموه ، من إبطال مذهب الخصم ، فعليكم وراء ذلك طلبة حاقة ، ليس لكم بها قبل وطاقة .

[ ص: 33 ] وهي أن يقال لكم : أنتم قاطعون بانتفاء النص ، فبم أدركتم حقيقة الانتفاء ؟ وكيف ترقيتم عن مخالجة الشك ، والمراء إلى هذا الادعاء ؟ فأنتم في دعوى النفي ، ومن ادعى الإثبات على سواء ، وإذا استوى المسلكان ، وتشاكلت جهات الإمكان ، فسبيل الإنصاف والانتصاف اجتناب القطع في النفي والإثبات على جزاف .

40 - قلنا الآن نحملكم بالبرهان الأوضح على سلوك اللقم الأفيح ، ونستاقكم إلى المحجة الغراء بالحجة البيضاء ، فليعلم المسترشد أن الذي دفعنا إليه متلقى من اطراد العادات واستمرارها ، وجريانها على القضايا المألوفة المعروفة واستقرارها ، فمما اطرد به العرف على مكر الأيام ، وممر الأعوام ، أن النبأ العظيم ، والخطب الجسيم ، وما يجل خطره ، ويتفاقم وقعه في النفوس وغرره ، تتوفر الدواعي على اللهج بصدقه وذكره ، والاعتناء بنشره وشهره ، والاهتمام بأمره لعلو منصبه وقدره .

ووضوح هذا يغني عن بسط المقال ، وضرب الأمثال ، فلو حل [ ص: 34 ] سلطان الوقت بقعة من البقاع ، وقدم بعض الأصقاع محفوفا بالأتباع ، مكنوفا بالأشياع ، في جيشه العرمرم ، وموكبه المعظم ، لاستحال أن ينقل ذلك آحادا ، أو يستبد بدركه فئة استبدادا . فيالله للعجب ! ! لم يخف ابتعاث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولاته وسعاته ، وندبه لجمع مال الله جباته ، فشاع توليته معاذا وعتاب بن أسيد ، ومن سواهما ، ووقعت توليته عليا عهد الإمامة في المتاهات ، وظلمات العمايات . هيهات هيهات ! !

التالي السابق


الخدمات العلمية