الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 492 ] 771 - وإن زعم السائل أن من أصول شريعتنا ألا تنسى ، وإن نسيت التفاصيل ، تغلظ الحظر ، فليس الأمر كذلك ، فإن المذاهب في ذلك متعارضة ، فالذي يقتضيه مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - في تفصيل الأحكام إجراء الأعيان على الحظر إلا أن تقوم دلالة في الحل .

772 - والذي يقتضيه مذهب الشافعي - رحمه الله - إجراء الأحكام على التحليل إلى أن يقوم دليل على الحظر والتحريم .

773 - ومذهب مالك - رحمه الله - حصر المحرمات فيما اشتمل عليه قوله تعالى : ( ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) ) الآية .

774 - فكيف يكون ما قدره السائل أصلا مع تعارض هذه المذاهب ؟ والأصل هو المتفق عليه المقطوع به ؟ .

775 - فإذا درست المذاهب ، فليس ادعاء الحظر أولى من ادعاء [ ص: 493 ] الإباحة ، وإذا تعارضت الظنون ، انتفى الحكم كما سبق تقريره ، وقد قدمنا في العبادات أن ما انتفى دليل وجوبه ، لم نوجبه ، والتحريم إذا انتفى دليله كالوجوب إذا عدم دليله .

776 - والآن بعد نجاز هذا أقول : فاضل هذا الزمان من يفهم مداخل هذه الفصول ومخارجها ، ويستبين مسالكها ومناهجها ، والمرموق والذي تثني عليه الخناصر في الدهر من يحيط بشرف هذا الكلام ، ويميزه عن كلام بني الزمان .

ولا حاجة إلى تكلف التصلف في مصاولة العلماء ، ومطاولتهم ، فإن هذا مما كفانيه الله تعالى ، ولكني قد أرى في أثناء ما أجريه التنبيه على علو قدر ما يجري ، حتى يثبت عنده مطالعه المطلع عليه ، ولا يستمر عليه فتنفلت ( 260 ) عنه مزايا الفوائد . والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولطفه .

فهذا بيان ما أردناه في تحليل الأجناس وتحريمها .

777 - فأما تفصيل القول في الأملاك : فالأملاك محترمة [ ص: 494 ] كحرمة ملاكها ، والقول فيها في مقصود هذا الكتاب يتعلق بفصلين .

أحدهما - في المعاملات التي يتعاطاها الملاك .

والثاني - في الحقوق التي تتعلق بالأملاك .

778 - فأما القول في المعاملات : فالأصل المقطوع به فيها اتباع تراضي الملاك ، والشاهد من نص القرآن في ذلك قوله تعالى ( ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ) .

فالقاعدة المعتبرة أن الملاك مختصون بأملاكهم ، لا يزاحم أحد مالكا في ملكه من غير حق مستحق ، ثم الضرورة تحوج ملاك الأموال التبادل فيها ; فإن أصحاب الأطعمة قد يحتاجون إلى النقود ، وأصحاب النقود يحتاجون إلى الأطعمة ، وكذلك القول في سائر صنوف المال .

779 - فالأمر الذي لا شك فيه تحريم التسالب والتغالب ، ومد الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق ، فإذا تراضوا بالتبادل فالشرع قد يضرب على المتعبدين ضروبا من الحجر في كيفية [ ص: 495 ] المعاملات استصلاحا لهم ، وطلبا لما هو الأحوط والأغبط ، ثم قد يعقل معاني بعضها ، وقد لا يعقل علل بعضها ، والله الخبير بخفايا لطفه فيها .

780 - ثم لو تراضى الملاك على تعدي الحدود في العقد ، لم يصح منهم مع التواطي والتراضي إذا بقيت تفاصيل الشريعة .

فإذا درست [ وقد ] عرف بنو الزمان أنه كان في الشرع تعبدات مرعية في العقود ، وقد فاتتهم بانقراض العلماء ، وهم لا يأمنون أن يوقعوا العقود مع الإخلال بحدود الشرع وتعبداته ، على وجوه لو أدركها المفتون لعلموا بفسادها . وليس لهم من العقود بد . ووضوح الحاجة إليها يغني عن تكلف بسط فيها ، فليصدروا العقود عن التراضي ، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل ، وليجروا العقود على حكم الصحة .

781 - وفي تفاصيل الشرع ما يعضد هذا ، فإن رجلين لو تبايعا ، ثم تنازعا في مجلس القاضي ، فادعى أحدهما جريان شرط مفسد للعقد ، فأنكره الثاني ، فالذي صار إليه معظم الفقهاء [ ص: 496 ] أن القول قول من ينفي المفسد ، والعقد محمول على حكم الصحة .

وهذا ما ذكرته إيناسا وتوطئة لمساق الكلام .

وإلا فلا [ معتضد ] في مثل ما ذكرناه لأهل زمان درست فيه تفاصيل الشريعة ، غير أن الكلام يجر الكلام ، وما ذكرناه في الزمان العري عن التفاصيل مقطوع به ، فإن الخلق مضطرون إلى التعامل لا يجدون لهم منه بدا .

وقد ذكرنا أن الحرام إذا طبق طبق الأرض ، أخذ الناس منه أقدار حاجاتهم ، لما حققناه من نزول الحاجة في حق العامة منزلة الضرورة في حق الآحاد .

وهذا مع بقاء الشريعة بتمامها وجملتها ، فكيف إذا مست الحاجة إلى [ التعامل ] ، ولم يجد الخلق مرجعا في الشرع يلوذون به ؟

782 - ثم إذا ساغت المعاملات ، فلا تخصيص بالجواز ، فإن منها ما هو وصيلة إلى الأقوات والملابس ونحوها ، ومنها ما هو تجائر ، ومكاسب لا سبيل إلى حسمها ،

783 - والقول الضابط في ذلك أن ما لا يعلم تحريمه من [ ص: 497 ] المعاملات ، فلا حجر فيه عند خلو الزمان عن علم التفاصيل والقول فيه كالقول في إباحة الأجناس ، وقد تقدم موضحا مفصلا .

وهذا بيان العقود الصادرة عن التراضي . فأما التغالب ، فلا يخفى تحريمه ، ما بقيت أصول الشريعة .

784 - وقد ( 262 ) تقع صورة عويصة ، لا تدرك إلا بعلم التفصيل ، مثل أن يغصب رجل ساجة ، فيدرجها في أثناء بناء له ولو انتزع لتهدم البناء .

فقد يخطر لبعض الناس أن الساجة تنتزع وترد إلى مالكها ، لأنه ظالم لما غصب منه ملكه ، وقد يخطر للآخرين أن في هدم بناء الغاصب تخسيره ، وإحباط ملكه ، وذو الساجة يجد بثمنها مثلها ، فيتعارض في مثل هذا إمكان النزع وتحريمه ، ولا سبيل لأهل الزمان إلى الحكم بالظن . وترك الخصومة ناشبة بينهما ، يجر ضرارا عظيما .

[ ص: 498 ] ولو قلنا : يتوقف في الواقعة ، ففي التوقف اتباع الحيلولة بين مالك الساجة [ وبينها ] وهو تنجيز مراد الغاصب الباني .

785 - فالذي تقتضيه الحالة أن يغرم صاحب البناء لصاحب الساجة قيمتها ، فإن مما يقطع به من غير تعريج على ظن أن الحيلولة بين المالك وملكه من غير عوض محال ، مع إمكان بذل العوض ، ورد عين الساجة مظنون ، و [ لا ] سبيل إلى بناء الأمر على الظنون مع عدم المفتين ، وانحسام الطرق إلى درك مذاهبهم .

فليتخذ الفطن ما ذكرناه معتبرا في أمثال ما نصصنا عليه .

786 - وإن أشكلت على أهل الزمان أن ما في أيديهم محرم أم لا ؟ فقد ذكرنا أن أخذ الحاجة من المشتبهات إذا عمت سائغ مع استقلال العلماء بالتفاصيل ، فما الظن والزمان خال عن معرفة التفاصيل ؟ .

787 - ويجوز الازدياد على قدر الحاجة في خلو الزمان عن المشتبهات ; فإن أهل الزمان لم يستيقنوا تحريما في الزائد على مقدار الحاجة ، وقد تمهد أن ما لم يقم عليه دليل التحريم ، فلا حرج [ ص: 499 ] فيه في الزمان الشاغر عن حملة العلوم بتفاصيل الشريعة ( 263 ) فهذا منتهى المقصد فيما يتعلق بالمعاملات .

التالي السابق


الخدمات العلمية