الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
وقد بقي من [ تمام ] الكلام قول جامع كلي في الزواجر ، وما يتعلق بالإيالة ، فنقول :

[ ص: 517 ] لا يكاد يخفى جواز دفع الظلمة ، وإن انتهى الدفع إلى شهر الأسلحة ، فإن من أجلى أصول الشريعة ، دفع المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداء ولو ثارت فيه زائغة عن الرشاد ، وآثروا السعي في الأرض بالفساد ، ولم يمنعوا قهرا ، ولم يدفعوا قسرا ، لاستجرأ الظلمة ، ولتفاقم الأمر . وهذا يغني ظهوره عن الإمعان في البيان .

829 - فأما إذا اعتدى المعتدون ، وظفرنا بهم ، فأصول الحدود لا تخفى ما بقيت شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

والكلام الضابط فيها أن كل حد استيقنه أهل العصر أقامه ولاة الأمر ، كما تقدم القول الشافي البالغ في أحكام الولاة .

فإذا شك بنو الزمان في وجوب الحد ، لم يقيموه أصلا ، ولو علموا أن وجوب الحد مختلف فيه بين العلماء ، فهو إذن مظنون وكان في محل التحري ، إذا كانت التفاصيل مذكورة محفوظة .

فإذا عدم أهل الزمان ما يتعلق به المقلدون من تقديم إمام على [ ص: 518 ] إمام ، فقد استوى عندهم الظنان ، وتعارض المذهبان ، ولا تعويل على ظنون العوام في أنفسهم ، فلا سبيل إلى الهجوم على إقامة العقوبات وإراقة الدماء مع التردد .

830 - ولو وقعت واقعة في حد مع بقاء الفروع ، واستوى في ظن المفتي إيجاب الحد ونفيه ، ولم يترجح أحد الظنين على الثاني ، فلا يفتى بالحد أصلا ، فحكم أهل الزمان الخالي عن علم التفاصيل يجري هذا المجرى .

831 - ومما يليق بذلك أنه إذا زنى رجل ، وعلم أنه استوجب الحد ، ولكن لم يدر أمحصن هو فيرجم ؟ أو بكر فيجلد ؟ فلا سبيل مع الإشكال إلى رجمه . فأما الجلد فلا يجوز جلد المحصن كما لا يجوز رجم البكر ، إذ لا تبادل في الحدود .

فالوجه على حكم الأصل أن لا يحد أصلا ; فإنا شككنا في أن الجلد هل يسوغ إقامته أم لا ، والعقوبة المشكوك فيها لا تقام في الزمان الذي دفعنا إلى الكلام فيه .

[ ص: 519 ] 832 - فإن قيل : لو زنى محصن واستوجب الرجم ، والشريعة بمائها ( 274 ) والعلماء متوافرون وحملة الشريعة مستقلون بضبط التفاصيل ، ورأى الإمام أن يقتل المحصن بالسياط ، ويحلها محل الأحجار فينبغي أن يجوز ذلك .

وإذا ثبت جوازه ، فليجلد من اعتاص الأمر في رجمه وجلده .

فإن كان مرجوما ، فقد اقتصر على بعض ما يستحق ، وإن كان مجلودا فقد أقيم عليه [ حقه ] كملا .

833 - قلنا : لسنا نرى أولا إقامة السياط مقام الأحجار ، فإن الحدود لا يتغير كيفياتها ولا تبدل آلاتها .

ثم إن انتهى مجتهد إلى تجويز ما أورده السائل ، فهو من دقيق القول في أساليب الظنون ، فكيف يدركه أهل الزمان الشاغر عن علماء التفاصيل ؟ .

834 - نجز الكلام في المرتبة الثالثة ، وقد قيض الله تعالى فيها أمورا بديعة ، لا يدرك علو قدرها إلا الفطن الغواص [ ص: 520 ] و [ من ] هو من أخص الخواص ، وكنت قد عزمت على أن أذكر في كل كتاب وباب فصولا ، وأمهد أصولا ، ثم رأيت الاكتفاء بهذه اللمع ; إذ وجدتها ترشد إلى مسالك الكلام في الأصول [ جمع ] ولو لم يكن فيه ما يسر الطالب إلا التنبيه على الأصول ، لكان ذلك كافيا .

835 - فإن قال قائل قد بنيتم هذه المرتبة على خلو أهل الزمان عن ذكر التفاصيل ، والذي ذكرتموه مما يغمض على معظم العلماء في الدهر ، فكيف يدركه أهل زمان فاتتهم تفريعات الشريعة وتفاصيلها ؟ فليس يحتاج إليه إذن ، والشريعة محفوظة ، فإذا درست فروعها ، ولم يستقل الناس بها ، لم يفهمها العوام ، فهذا الكلام إذن لا يجدي ولا يفيد على اختلاف الزمان في الذكر والنسيان ؟

836 - قلنا : الجواب عن هذا من وجهين : أحدهما - أنه ليس خاليا عن فوائد جمة مع بقاء العلوم بتفاصيل الشريعة ، وفيها ( 275 ) التنبيه على مأخذ الأصول والفروع ، ومن أحكمه تفتحت قريحته في مباحث المعاني ، وعرف القواعد [ ص: 521 ] والمباني ، ورقى إلى مرقى عظيم من الكليات لا يدركه المتقاعد الواني ، [ وطرق ] المباحث لا تتهذب إلا بفرض التقديرات قبل وقوعها والاحتواء على جملها ، ومجموعها .

فهذا جواب . ولست أرتضيه ; فإني لم أجمع هذا الكلام لهذا الغرض .

837 - فالجواب السديد أني وضعت [ هذا ] الكتاب لأمر عظيم ، فإني تخيلت انحلال الشريعة ، وانقراض حملتها ، ورغبة الناس عن طلبها ، وإضراب الخلق عن الاهتمام بها ، وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون ، والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف ، ويقنعون بالأطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها ، أو فصول ملفقة ، وكلم مرتقة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام .

فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب ، ولا تخلفهم إلا التصانيف والكتب . ثم لا يستقل بكتب [ ص: 522 ] الشريعة على كثرتها واختلافها مستقل بالمطالعة من غير مراجعة مع مرشد ، وسؤال عن عالم مسدد .

فجمعت هذه الفصول ، وأملت أن يشيع منها نسخ في الأقطار والأمصار ، فلو عثر عليها بنو الزمان لأوشك أن يفهموها لأنها قواطع ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم ومعاذهم ، فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم ويتحفظونه لصغر حجمه واتساق نظمه .

فهذا ما قصدت . فإن تحقيق ظني فهو الفوز الأكبر ، وإلا فالخير أردت . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية