الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
51 - ثبوت الاختيار يستدعي تقديم إثبات الإجماع على منكريه ، وتحقيق الغرض فيه صعب المدرك متوعر المسلك على من لا يدريه ، ومن يحاوره قبل الاستيثاق بما ينحيه عن ظلمات التيه ، عسر عليه تلافيه ، ولا بد من رمزة إلى وجه الإشكال والإعضال في صيغة السؤال ، ثم نعطف عليه الانفصال ، متضمنا ثلج الصدر على الكمال .

[ ص: 44 ] 52 - فإن قيل : لا يدل على وجوب اتباع الإجماع مسالك العقول ، فإن الرب تعالى موصوف بالاقتدار على جمع العالمين على الباطل على اضطرار ، وعلى خيرة وإيثار ، وإذا كان ذلك مسوغا في العقل غير مستحيل ، وليس في العقل على القضاء بصدق المجمعين دليل ، وليس إلى درك ذلك من طرق المعقولات سبيل ، وليس في كتاب الله نص في إثبات الإجماع لا يقبل التأويل ، وليس على الظواهر القابلة للتأويلات في القطعيات تعويل ، ولا مطمع في إثبات الإجماع بخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; فإنه لم يتواتر عنه نص في الإجماع يدرأ المعاذير ، ويقطع التجويز والتقدير ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجتمع أمتي على ضلالة " نقله معدودون محددون ، معرضون لإمكان الهفوات والزلات ، على أنه يتطرق إليه سبيل التأويلات ; فلا يبعد أن يقال : المعني بقوله - عليه السلام - : ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ) أنها لا تنسلخ عن الإيمان ملابسة عماية الجهالة ، فيكون مضمون هذه المقالة الإشعار بأمان الأمة عن المنقلب إلى الكفر والردة ، وإن تطاولت المدة .

53 - فإذا لم نجد مسلكا في إثبات الإجماع معقولا ، وأصلا [ ص: 45 ] مقطوعا به في السمع منقولا ، فما مستند اليقين والقطع بثبوت الإجماع في وضع الشرع ؟ وعليه مدار معظم الأحكام في الفرق والجمع وإليه استناد المقاييس والعبر ، وبه اعتضاد الاستنباط في طرق الفكر ، فقد عظم الخطر ، وتفاقم الغرر ، وهذا مضلة الأنام ، ومزلة الأقدام ، ومتاهة الخواص والعوام ، ومعرفة الغواص والعوام ، وما انتهى المهرة إلى مساق هذا الإشكال ومذاق هذا الإعضال ; فضلا عن المطمع في الانفصال .

54 - فأنا أستعين بالله تعالى ، وعليه الاتكال ، فأقول : إذا صادفنا علماء الأمة مجمعين على حكم من الأحكام ، متفقين على قضية في تفاصيل الحلال والحرام ، وألفيناهم قاطعين على جزم وتصميم ، في تحليل أو تحريم ، وهم الجم الغفير ، والجمع الكثير ، وعلمنا بارتجال الأذهان أنهم ما تواطئوا على الكذب على عمد ، وما تواضعوا على الافتراء عن قصد ، وهم متبددون في الأقطار ، متشتتون في الأمصار ، مع تنائي الديار ، وتقاصي المزار ، لا يجمعهم رابط على وطر من الأوطار ، ثم كرت الدهور ، ومرت العصور ، وهم مجمعون على قطع مسدد ، من غير رأي مردد . والأحكام [ ص: 46 ] في تفاصيل المسائل لا ترشد إليها العقول ، فنتبين أنه حملهم على اتفاقهم قاطع شرعي ، ومقتضى جازم سمعي ، ولولاه ، لاستحال أن يقطعوا في مظنات الظنون ، ثم يتفقوا من غير سبب جامع يحملهم على التواضع على الكذب ، ثم يستمروا على ذلك ، مع امتداد الآماد على استتباب ، واطراد . هذا محال وقوعه في مستقر الاعتياد .

55 - وإنما يتضح حقيقة هذه الطريقة بأسئلة وأجوبة عنها . فإن قيل : نرى أهل مذهب في الشرع يبلغ عددهم المبلغ الذي وصفتموه ، ولا يجوز من مثلهم التواضع كما عرفتموه ، ثم هم مصممون على معتقدهم ، ولو قطعوا مثلا لا يبغون عنه حولا ، ثم لا يدل إجماعهم على القطع بأن مذهبهم الحق ، ومعتقدهم الصدق ، قلنا هؤلاء وإن طبقوا طبق الأرض ، ذات الطول والعرض ، فهم معترفون بأنهم ظانون ، معتصمون بأساليب الظنون ، ولا يقطعون بأن خصومهم مبطلون ، ولا يبعد في مطرد العادات اجتماع أقوام على فنون من طرائق الظنون ، ومتابعتهم مسلكا مخصوصا .

[ ص: 47 ] فأما الاجتماع من مثل هذا العدد على دعوى القطع ، مع الاتفاق على أنه متلقى من السمع ، من غير إسناد إلى قاطع في الشرع ، فهذا مستحيل على الضرورة ، لا يجوزه ذو تحصيل ، وكيف يجوز ذهول علماء الأمة عن اعتراض الظنون الهاجسة في النفوس ، الخاطرة في أدراج الفكر والحدوس ؟ ، حتى يحسبوا المظنون في الشرع معلوما ، والمشكوك فيه مقطوعا به مفهوما ، ويتفقوا على القطع من غير معنى يوجب القطع . هذا يكون تجويزه هجوما على جحد الضروريات ، واقتحاما لورطات الجهالات ، وخرقا لموجب العادات ، فأما أن يغلب على ظنون جمع أمر عن قول رجل ظاهر العدالة ، مستقيم الحالة ، مع علمهم بأنهم ظانون ، فليس ذلك بدعا عرفا وشرعا ، وإنما المستحيل الاتفاق على العلم في السمعيات ، والإطباق على ادعاء اليقين في الشرعيات ، من غير اطلاع على قاطع يقتضي الإجماع من عدد لا يجوز منهم التواطؤ والتواضع .

56 - فإن قيل : قصارى هذا الانفصال عما توجه من السؤال ، أن الذين ينتحلون مذهب الإمام لا يدعون علما ، وإنما غايتهم [ ص: 48 ] غلبة ظن ، صدرها عن ترجيح وتلويح ، ونحن الآن نلزمكم ما لا تجدون إلى درئه سبيلا .

57 - فنقول : النصارى وغيرهم من الكفار مصممون على فاسد عقدهم دينا ، ولو صب عليهم صنوف العذاب صبا ، ما ازدادوا في معتقدهم إلا نضالا وذبا ، ولو اعتمد أضعفهم منة فنشر بالمنشار لما آثر نكولا ورجوعا ، وهم مطبقون أن عقدهم اليقين المبين ، والدين المتين ، وعددهم يبر على عدد المسلمين بأضعاف مضعفة ، وخطة الإسلام بالإضافة إلى ديار الكفار كالشامة البيضاء في مسك ثور أسود .

58 - وهذا سؤال عظيم الوقع في الإجماع الواجب الاتباع في الشرع ، ولا يحل معوصه إلا موفق ، بل لا ينتهي إلى غائلة السؤال إلا محقق ، وليس يليق الانتهاء إلى هذه المعاصات في التحقيق بمقدار غرضنا في ذكر أحكام الإمامة ، ولكن صادفت نشطة وهزة إلى المجلس الأسمى ، ووافقت بسطة ، فأرخيت فضل [ ص: 49 ] عناني ، وأطلت عذبة لساني ، وانتهيت إلى مأزق ومضايق في مدارج الحقائق ، يتوعر فيها العطن ، ويتحير فيها الفطن ، ويضيق فيها نطاق النطق ، ويعسر فيها لحاق الحق ، ويتخايل فيها القرح عن شأو السبق ، ولكن المستعين بالله موفق ، والمتبري عن حوله وقوته بالصواب مستنطق ، وحق على كل من له في مشرع الشرع مكرع ، وفي رتع الدين مرتع ، إذا انتهى إلى هذا المقام ، وأفضى به النظر إلى سر هذا الكلام ، أن يعلم أنه دفع إلى خطب عظيم من الخطوب الجسام ; فإن الإجماع مناط الأحكام ، ونظام الإسلام ، وقطب الدين ، ومعتصم المسلمين ، ومعظم مسائل الشريعة ينقسم إلى مجتهدات في ملتطم الخلاف ، ومستندها في النفي والإثبات مسائل الإجماع ، وليس من ورائها نصوص صريحة ، وألفاظ صحيحة في الكتاب والسنة ، والأصل [ ص: 50 ] فيها الإجماع إذا ; فمن لم يثق بالأصل الذي منه الاستثارة والاستنباط ، كيف يعدل في مسالك التحري والتأخي معياره ؟ ؟ وأنا لم أطنب في التشريف وأنا أقيم لهذا السؤال وزنا ، ولكن رمت تنبيه القرائح لتدرك الحقيقة والمعنى .

59 - وأنا الآن أستعين بالله ، فهو المستعان ، وعليه التكلان ؛ فأقول مدار الكلام في إثبات الإجماع على العرف واطراده ، وبيان استحالة جريانه حائدا عن مألوفه ومعتاده ، فكل ما يتعلق بالدول ، والأديان والملل ، فالعرف مستمر على اتباع شوف ومطمح يجمع شتات الآراء ، ويؤلف افتراق الأهواء ; ولهذا السبب انتظم أمر الدين والدنيا ، ولو استرسل الناس على مذاهبهم المتباينة في الإرادات والمنى ، وتقطعوا أيادي سبا ، لاستحال الكون والبقاء ، ولهلك في النزاع والدفاع الجماهير والدهماء ، وإذا أراد الله بقوم سوءا ، تركهم سدى ، يختبطون بلا وزر ، فإذ ذاك يتهافتون على ورطات [ ص: 51 ] الغرر ، ويتهاوون في مهاوي الخطر .

وملاك الأمور كلها ملة تدعو إلى القربات والخيرات ، وتزجر عن الفواحش والموبقات ، ومرتبطها الأنبياء المؤيدون بالآيات ، وإيالة قهرية تضم النشر من الآراء المتناقضة ، ومتعلقها الملوك والأمراء الممدون بالعدد والعدد ، وأسباب المواتاة ، فما كان من اتساق واتفاق مستنده دين أو ملك ، فليس وقوعه بديعا ، وما ذكروه جميعا في هذا الصنف في مستقر العرف ، وأما ما جعلناه متمسكا في الإجماع فالاتفاق على حكم معين في مسألة مخصوصة ، وهذا التعين لا تقتضيه إيالة ملكية قهرية ، ولا قضية دينية نبوية ، ويستحيل إجماع عدد عظيم على أمر من غير ثبوت سبب جامع ، كما يستحيل إجماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود ، أو أكل أو نوم ، مع اختلاف الدواعي والصوارف ، وتباين الجبلات والخلق والأخلاق ، فحصول الاتفاق مع ذلك من وفاق يفضي إلى الانخرام في مطرد العرف والانخراق .

فقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن إجماع أهل البصائر على [ ص: 52 ] القطع في مسألة مظنونة ، لا مجال للعقول فيها يستحيل وقوعه من غير سبب مقطوع به سمعي .

60 - فإن قيل : لو كان سبب الإجماع خبرا مثلا مقطوعا به ، للهج المجمعون بنقله .

قلنا : لا نبعد أن ينعقد الإجماع عن سبب مقطوع به ، ثم يقع الاكتفاء بالوفاق ، ويضرب المجمعون عن نقل السبب ; لقلة الحاجة إليه ، وكم من شيء يستفيض عند وقوعه ، ثم يمحق ويدرس ، حتى ينقل آحادا ، ثم ينطمس حتى لا ينقل ، ويقع الاكتفاء بما ينعقد الوفاق عليه ، ووضوح ذلك يغني أصحاب المعارف بالعرف عن الإطناب في تقريره .

التالي السابق


الخدمات العلمية