الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 98 ] الباب الخامس .

فيما يتضمن خلع الأئمة وانخلاعهم .

138 - فنقول : ما يجب بناء أساس الباب عليه أن الكلام المتقدم اشتمل على ذكر الصفات المرعية في الأئمة . فالذي يقتضيه استداد النظر ابتدارا قبل الافتكار وإنعام الاعتبار أن كل ما يناقض صفة مرعية في الإمامة ويتضمن انتفاءها ، فهو مؤثر في الخلع والانخلاع ، وهذا لا محالة معتبر الباب .

ولكن وضوح الغرض يستدعي تفصيلا ، فنقول :

139 - الإسلام هو الأصل والعصام ، فلو فرض انسلال الإمام عن الدين ، لم يخف انخلاعه ، وارتفاع منصبه وانقطاعه ، [ ص: 99 ] فلو جدد إسلاما لم يعد إماما إلا أن يجدد اختياره .

140 - ولو جن جنونا مطبقا انخلع ، وكذلك لو ظهر في عقله خبل ، وعته في رأيه ، واضطرب نظره اضطرابا لا يخفى دركه ، ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى فضل نظر ، وعسر بهذا السبب استقلاله بالأمور ، وسقطت نجدته وكفايته ، فإنه ينعزل كما ينعزل المجنون ، فإن مقصود الإمامة القيام بالمهمات والنهوض بحفظ الحوزة ، وضم النشر ، وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالئة ، فإذا تحقق عسر ذلك لم يكن الاتسام بنبز الإمام معنى .

141 - والذي غمض على العلماء مدركه ، واعتاص على المحققين مسلكه طريان ما يوجب التفسيق على الإمام ، فلينعم طالب التحصيل في ذلك نظره ، وليعظم في نفسه خطره ، وليجمع له فكره ; فإنه [ ص: 100 ] من معاصات الكلام في الكتاب . والمستعان رب الأرباب .

142 - قد ذهب طوائف من الأصوليين والفقهاء إلى أن الفسق إذا تحقق طريانه ; أوجب انخلاع الإمام كالجنون . وهؤلاء يعتبرون الدوام بالابتداء ، ويقولون : اقتران الفسق إذا تحقق يمنع عقد الإمامة . فطريانه يوجب انقطاعها ; إذ السبب المانع من العقد عدم الثقة به وامتناع ائتمانه على المسلمين ، وإفضاء تقليده إلى نقيض ما يطلب من نصب الأئمة . وهذا المعنى يتحقق في الدوام تحققه في الابتداء . والذي يوضح ذلك أنه لا يجوز تقريره ; بل يجب عند من لم يحكم بانخلاعه خلعه ، وإذا كان يتعين ذلك ، فربط الأمر بإنشاء خلعه لا معنى له مع أنه لا بد منه .

143 - وذهب طوائف من العلماء إلى أن الفسق بنفسه لا [ ص: 101 ] يتضمن الانخلاع ، ولكن يجب على أهل الحل والعقد إذا تحقق خلعه .

144 - ونحن بتوفيق الله وتأييده نوضح الحق في ذلك ، فنقول : المصير إلى أن الفسق يتضمن الانعزال والانخلاع بعيد عن التحصيل ; فإن التعرض لما يتضمن الفسق في حق من لا تجب عصمته ظاهر الكون سرا وعلنا ، عام الوقوع ، وإنما التقوى ومجانبة الهوى ومخالفة مسالك المنى ، والاستمرار على امتثال الأوامر ، والانزجار عن المناهي والمزاجر ، والارعواء عن الوطر المنقود ، وانتحاء الثواب الموعود ، هو البديع .

والتحقيق أنه لا يستد على التقوى إلا مؤيد بالتوفيق ، والجبلات داعية إلى اتباع اللذات ، والطباع مستحثة على الشهوات . والتكاليف متضمنها كلف وعناء . ووساوس الشيطان ، وهواجس نفس الإنسان متظافرة على حب العاجل ، واستنجاز الحاصل ، والجبلة بالسوء أمارة ، والمرء على أرجوحة الهوى تارة وتارة ، والدنيا مستأثرة ، وباب الثواب محتجب ، فطوبى لمن سلم ، ولا مناص ، ولا خلاص إلا لمن عصم ، والزلات تجري مع الأنفاس ، والقلب [ ص: 102 ] مطرق الوسواس ، فمن الذي ينجو في بياض نهار من زلته ، ولا يتخلص من حق المخافة إلا يتغمده الله برحمته .

145 - ومن شغل الإمام عقد الألوية ، والبنود ، وجر الجنود ، ولا يترتب في ديوان المقاتلة إلا أولو النجدة والبأس ، وأصحاب النفوس الأبية ، ذوي الشراس والشماس ، فليت شعري كيف السلامة من معرة الجند ، وكيف الاستقامة على شرط التقوى في الحل والعقد ؟ .

146 - ومن شأنه أيضا تفريق الأموال بعد الاستداد في الجباية والجلب ، على أهل الشرق والغرب ، ولا يخفى على منصف أن اشتراط دوام التقوى يجر قصاراه عسر القيام بالإيالة العظمى ، ثم لو كان الفسق المتفق عليه يوجب انخلاع الإمام أو يخلعه لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله على تفنن أطواره وأحواله ، ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه المقتضي خلعه ، ولتحزب الناس أبدا في مطرد الأوقات على افتراق [ ص: 103 ] وشتات في النفي والإثبات ، ولما استتبت صفوة الطاعة للإمام في ساعة .

147 - وإذا لم تكن الإيالة الضابطة لأهل الإسلام على الإلزام والإبرام ، كان ضيرها مبرا على خيرها .

فخرج من محصول ما ذكرناه أن القائم بأمور المسلمين إذا لم يكن معصوما ، وكان لا يأمن اقتحام الآثام ، ومن لا يأمن اقتحام الآثام فيما يتعلق بخاصته ، فبعد أن يسلم عن احتقاب الأوزار في حقوق كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إيفاء واستيفاء ، ومنعا واستواء ، وردعا ودعاء ، وقبولا وردا ، وفتحا وسدا ، فلا يبقى لذي بصيرة إشكال في استحالة استمرار مقاصد الإمامة ، مع المصير إلى أن الفسق يوجب انخلاع الإمام ، أو يسلط خلعه على الإطلاق .

والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر عن الإمام لا يقطع [ ص: 104 ] نظره ، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويئوب . وقد قررنا بكل عبرة أن في الذهاب إلى خلعه أو انخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها ، واستئصال فائدتها ورفع عائدتها ، وإسقاط الثقة بها ، واستحثاث الناس على سل الأيدي عن ربقة الطاعة .

148 - ولا خلاف أن الإمام لو طرأ عليه عرض ، أو عراه مرض ، وامتنع عليه الرأي به ، ولكنه كان مرقوب الزوال لم نقض بانخلاعه ، ومن شبب في ذلك بخلاف ، كان منسلا عن وفاق المسلمين انسلال الشعرة من العجين ، فإذا كان كذلك مع أن المرض قاطع نظره في الحال ، فما يطرأ من زلة وهي لا تقطع نظره على أنها مرقوبة الزوال ، أولى بأن لا يتضمن انخلاعه ، والأخبار المستحثة على اتباع الأمراء في السراء والضراء يكاد أن يكون معناها في حكم الاستفاضة ، وإن كانت آحاد ألفاظها منقولة أفرادا ؛ منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " هل أنتم تاركون لي أمرائي ؛ لكم صفو أمرهم [ ص: 105 ] وعليهم كدره " ؟ إلى غير ذلك من الألفاظ . فليطلب الحديث طالبه من أهله .

149 - وإنما غرضي من وضع هذا الكتاب ، وتبويب هذه الأبواب ، تحقيق الإيالات الكلية ، وذكر ما لها من موجب وقضية ، وهذه مسالك لا أباري في حقائقها ولا أجاري في مضايقها .

150 - فإن قيل : فلم منعتم عقد الإمامة لفاسق ؟ .

قلنا : أهل العقد على تخيرهم في افتتاح العهد ، ومن سوء الاختيار أن يعين لهذا الأمر العظيم ، والخطب الجسيم فاسق ، وهم مأمورون بالنظر للمسلمين من أقصى الإمكان ، وأما الذهاب إلى الانخلاع بعد الاستمرار والاستتباب مع التعرض للزلات ، فمفسد لقاعدة الولاية ، ولا خفاء بذلك عند ذوي الدراية .

التالي السابق


الخدمات العلمية