الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
222 - فأما إذا استناب في حياته نائبا ، وفوض إلى نظره تنفيذ الأمور الناجزة . نظر : فإن سلم إليه مقاليد الأمور كلها وجعله يستقل وينفذ ، ويقضي ويمضي ، ويعقد ويحل ، ويولي ويعزل ، وهو في أموره كلها لا يطالع الإمام ، ولا يراجعه ، بل ينفرد ويستبد ، فهذا غير سائغ ، فإن في تجويزه جمع إمامين ، وسنعقد في امتناع ذلك بابا ، وفاء بتراجم الكتاب إن شاء الله عز وجل .

223 - فإن قيل : هذا المرشح للاستبداد متوحد بالأمور ، والإمام [ ص: 149 ] لا يشاركه فيما يتعاطاه ، وإنما الممتنع انتصاب إمامين قائمين بالأمور .

قلنا : هذا أبعد من الجواز ; فإن الإمام إنما ينتصب للقيام بمصالح الإسلام ، والنظر في مهمات الأنام بعين ساهرة ، فإذا آثر السكون إلى التعطيل واختار الركون إلى التودع ; كان الإمام تاركا منصبه ، وصار بمنزلة من ليس إماما متصديا للإمامة ، وهذا غير مسوغ قطعا ، فهذا إن سلم الأمور إليه على الاستقلال والاستبداد .

224 - وإن فوض إليه الأمور ، ولكنه كان بمرأى من الإمام ومسمع ، ولم يكن الإمام ذاهلا عن مجامع أموره ، وكان المتصرف المستناب يراجع الإمام فيما يجريه ويمضيه ، فهذا جائز غير ممتنع ، وهذا المنصب هو المسمى الوزارة .

225 - ثم الإمام لا يستوزر إلا شهما كافيا ، ذا نجدة ، [ ص: 150 ] وكفاية ، ودراية ، ونفاذ رأي ، واتقاد قريحة ، وذكاء فطنة ، ولا بد أن يكون متلفعا من جلابيب الديانة بأسبغها وأضفاها وأصفاها راقيا من أطواد المعالي إلى ذراها ; فإنه متصد لأمر عظيم ، وخطب جسيم ، والاستعداد للمراتب على قدر أخطار المناصب .

وقد قيل يشترط في المستوزر اجتماع شرائط الإمامة إلا النسب والاعتزاء إلى شجرة قريش ، وأنا أقول : أما النجدة والكفاية ، فلا بد منهما ، وكذلك الورع ، فإنه رأس الخيرات وأساس المناقب ، ومن لم يتصف به فجميع ما فيه من المآثر تصير وسائل ووصائل إلى الشر ، وطرائق إلى اجتلاب الضر ، ولا يخفى على ذي بصيرة أن الفطن الماجن غير المرضي ، أضر على خليقة الله من الأحمق الغبي . ولا شك [ ص: 151 ] أن العقل أصل الفضائل ، فإن لم يقترن به الورع والتقوى ، انقلب ذريعة إلى الفساد ، ومطية جائرة عن منهج الرشاد ، فوجب اشتراط استجماع الوزير شرائط المجتهدين ، ومراتب الأئمة في علوم الدين .

وظاهر مذهب الشافعي - رحمه الله - أن ذلك مشروط في التصدي لهذا المنصب العلي ، وليس ذلك بدعا من أصل هذا الحبر ، وسنقرر من طريقته اشتراط استجماع القضاة رتب المجتهدين . فإذا كان يشترط ذلك فيهم فمن إليه نصب القضاة وصرفهم ، وترشيح الولاة لمهمات الأنام ، في خطة الإسلام أولى في معتقده بالإمامة في دين الله ، وعلم الشريعة .

226 - وأنا بعون الله وتأييده ، وتوفيقه وتسديده ، آت في ذلك بالحق المبين ، وأمهد في هذا للناظرين مدرك اليقين ، والمستعان رب العالمين .

227 - فأقول : أما الإمام ، فلا بد من أن يكون بالغا مبلغ [ ص: 152 ] المجتهدين قطعا ; فإنه وزر الدين والدنيا ، وموئل الخلائق أجمعين ، وهو مرجع الخلائق كلهم في مهماتهم على تفنن حالاتهم ، وأولى الأمور بالرعاية ما يتعلق بالنظر في قواعد الإسلام ، وضبط أصول الأحكام ، فلو لم يكن الإمام في الدين على أعلى منصب ومقام ، لكان مقلدا تابعا غير متبوع ، ولما كان ملاذا للائذين ، ومعاذا للمسلمين ، جامعا لشتات الآراء ، محتويا على مقاليد الشريعة ، مستقلا بالنظر في أمر الملة . ولئن ساغ أن لا يرتبط أمر الدين برأي قوام على المسلمين والإسلام ، فليجز ترك الأمر سدى مجرى يختبط الناس فيها ، فإن الدنيا إنما ترعى من حيث يستمد استمرار قواعد الدين منها ، فهي مرعية على سبيل التبعية ، ولولا مسيس الحاجة إليها على هذه القضية ، لكانت الدنيا الدنية حرية بأن نضرب عنها بالكلية .

228 - والذي يكشف الغطاء في ذلك أن التقليد إنما يسوغ عند [ ص: 153 ] تحقق العجز عن الاستبداد بالاجتهاد ، ثم على المقلد نظر ضعيف في تخير قدوة وتعيين أسوة ، فلو كان الإمام مقلدا لحمل الناس على مقتضى تقليده ، وموجب نظره الواهي في تعيين من يقلده ، وهذا مستحيل لا يستريب فيه ذو تحصيل ، فإذا الإمام من حيث كان قدوة الخلق ، وحاملهم على مسالك الحق ، وجب أن يكون على الاستقلال ، والاستجماع لخلال الكمال في الدين والدنيا ، وإليه الرجوع ، ولو لم يكن كذلك ، لكان تابعا غير متبوع .

229 - فأما من سوى الإمام ، فأحرى المنازل باجتماع الفضائل منصب الوزير القائم مقام الإمام ، في تنفيذ الأحكام ، فإن نظره يعم عموم نظر الإمام في خطة الإسلام ، ولكن من حيث ليس له رتبة الاستقلال ، فإنه يجب أن يراجع الإمام في مجامع الخطوب لا يبلغ اشتراط بلوغه مبلغ المجتهدين رتبة القطع ، فإنه قيل : إنه ينفذ الأمور ، فإذا اعتاص عليه أمر راجع الإمام ، [ ص: 154 ] أو من يصلح للمراجعة من أئمة الدين وحملة الشريعة . لم يكن ذلك هجوما على مخالفة مقطوع به ; إذ مرتبة الوزير وإن علت ، فإنها ليست رتبة المستقلين ، وإنما المستقل الإمام . على أن الأظهر اشتراط كون الوزير الذي إليه تنفيذ الأمور إماما في الدين ، فإن ما يتعاطاه عظيم الخطر والغرر ، ويعسر عليه مراجعة الإمام في تفاصيل الوقائع ، وإنما يطالع الإمام في الأصول والمجامع ، فإذا لم يكن إماما في الدين لم يؤمن زلله في أمور للمسلمين ، يتعذر تلافيها ، كالدماء والفروج ، وما في معانيها .

وما ذكرناه من الصفات في الوزير الذي إليه تنفيذ الأمور .

230 - فأما إذا كان الإمام يتولى التنفيذ ; والمتصدي للوزارة يظهر ; فليس إليه افتتاح أمر ، وإنما هو بمنزلة السفير في كل قضية بين الإمام والرعية .

[ ص: 155 ] 231 - فإن كان الإمام يستضيء برأيه فيما يأتي ويذر ، فهو مستشار مبلغ ، وليس إليه من الولاية شيء ، فلا يشترط فيه إلا أمرين : أحدهما : أن يكون موثوقا به بحيث تقبل روايته ، فإن ملاك أمره إخبار الجند والرعايا بما ينفذه الإمام ، وهذا يستدعي الورع وصدق اللهجة ، والتنفيذ والثقة تشعر بهما .

والثاني : الفطنة والكياسة ; فإن عظائم الأمور لا يدرك معانيها لينقلها إلا فطن ، لا يؤتى عن غفلة وذهول ، ومن لم يكن فطنا لم يوثق بفهمه لما ينهيه ، ولم يؤمن خطؤه فيما يبلغه ويؤديه .

ولا يضر أن يكون صاحب هذا المنصب عبدا مملوكا ، فإن الذي يلابسه ليس ولاية ، وإنما هو إنباء وإخبار ، والمملوك من أهل ولاية الأخبار .

232 - وذكر مصنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية [ ص: 156 ] أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا ، وهذه عثرة ليس لها مقيل ، وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل ، فإن الثقة لا بد من رعايتها ، وليس الذمي موثوقا به في أفعاله وأقواله ، وتصاريف أحواله ، وروايته مردودة ، وكذلك شهادته على المسلمين ، فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين ، فمن لا تقبل شهادته على باقة بقل ، ولا يوثق به في قول وفعل ، كيف ينتصب وزيرا ؟ وكيف ينتهض مبلغا عن الإمام سفيرا ، على أنا لا نأمن في أمر الدين شره ، بل نرتقب - نفسا فنفسا - ضره ، وقد توافت شهادة نصوص الكتاب والسنة على النهي عن الركون إلى الكفار ، والمنع من ائتمانهم ، وإطلاعهم على الأسرار قال الله تعالى : ( لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ) وقال : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) .

[ ص: 157 ] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا برئ من كل مسلم مع مشرك لا تتراءى ناراهما " .

واشتد نكير عمر على أبي موسى الأشعري لما اتخذ كاتبا نصرانيا . وقد نص الشافعي - رحمة الله عليه - على أن المترجم الذي ينهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب أن يكون مسلما عدلا رضا ، ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار . فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار ؟ .

233 - فليت شعري كيف يستجيز التصدي للتصنيف من هذا منتهى فهمه ومبلغ علمه ؟ ، ومن استجرأ على تأليف الكتب تعويلا على ذرابة في عذبة لسانه ، واستمكانه من طرف من [ ص: 158 ] البسط في بيانه ، ولم يكن بحرا معلوما في العلوم لا ينكش ، ولا يغضغض ، ونهرا معدودا لا ينزف ولا يمخض ، فقد تهدف فيما صنف ، واقتحم المهاوي وتعسف ، ولست - والله - في ذلك أتغلب وأتصلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية