الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 172 ] الباب السابع .

في منع نصب إمامين .

252 - إذا تيسر نصب إمام واحد يطبق خطة الإسلام نظره ، ويشمل الخليقة على تفاوت مراتبها في مشارق الأرض ومغاربها أثره ، تعين نصبه ، ولم يسغ - والحالة هذه - نصب إمامين . وهذا متفق عليه ، لا يلفى فيه خلاف ، ولما استتبت البيعة لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم استمرت الخلافة إلى منقرض زمن الأئمة - رضي الله عنهم أجمعين - فهم على الاضطرار ، من غير حاجة إلى نقل أخبار ، من مذاهب المهاجرين والأنصار ، أن مبنى الإمامة على أن لا يتصدى لها إلا فرد ، ولا يتعرض لها إلا واحد في الدهر ، ومن لم يحط بدرك ذلك من شيم العاقدين والذين عقد لهم ، فهو بعيد الفهم ، فدم القريحة ، مستميت الفكر .

253 - وقد تقرر من دين الأمة قاطبة أن الغرض من الإمامة [ ص: 173 ] جمع الآراء المشتتة ، وارتباط الأهواء المتفاوتة ، وليس بالخافي على ذوي البصائر أن الدول إنما تضطرب بتحزب الأمراء ، وتفرق الآراء ، وتجاذب الأهواء ، ونظام الملك ، وقوام الأمر بالإذعان ، والإقرار لذي رأي ثابت لا يستبد ، ولا ينفرد ، بل يستضيء بعقول العقلاء ، ويستبين برأي طوائف الحكماء ، والعلماء ، ويستثمر لباب الألباب ، فيحصل من انفراده الفائدة العظمى في قطع الاختلاف ، ويتحقق باستضاءته استثمار عقول العقلاء .

254 - فالغرض الأظهر إذا من الإمامة لا يثبت إلا بانفراد الإمام ، وهذا مغن بوضوحه عن الإطناب والإسهاب ، مستند إلى الإطباق والاتفاق ، إذ داعية التقاطع والتدابر والشقاق ربط الأمور بنظر ناظرين ، وتعليق التقدم بأميرين ، وإنما تستمر أكناف الممالك برجوع أمراء الأطراف إلى رأي واحد ضابط ، ونظر متحد رابط ، وإذا لم يكن لهم موئل عنه يصدرون ، ومطمح إليه يتشوفون ، تنافسوا وتتطاولوا ، وتغالبوا وتصاولوا ، وتواثبوا على [ ص: 174 ] ابتغاء الاستيلاء والاستعلاء ، وتغالبوا غير مكترثين باستئصال الجماهير والدهماء ، فتكون الداهية الدهياء ، وهذا مثار البلايا ، ومهلكة البرايا ، وفيه تنطحن السلاطين والرعايا .

255 - فقد تقرر أن نصب إمامين مدعاة الفساد ، وسبب حسم الرشاد ، ثم إن فرض نصب إمامين على أن ينفذ أمر كل واحد منهما في جميع الخطة ، جر ذلك تدافعا وتنازعا ، وأثر ضر نصبهما يبر على ترك الأمر مهملا سدى .

وإن نصب إمام في بعضها ، وآخر في باقيها ، مع التمكن من نصب إمام نافذ الأمر في جميع الخطة ، كان ذلك باطلا إجماعا ، كما سبق تقريره ، وفيه إبطال فائدة الإمامة المنوطة برأي واحد يجمع الآراء كما سبق إيضاحه فيما تقدم ، وهذا واضح لا خفاء به .

256 - والذي تباينت فيه المذاهب أن الحالة إذا كانت بحيث لا ينبسط رأي إمام واحد على الممالك ، وذلك يتصور بأسباب [ ص: 175 ] لا تغمض : منها : اتساع الخطة ، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة ، وجزائر في لجج متقاذفة ، وقد يقع قيام قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام ، وقد يتولج خطة من ديار الكفر بين خطة الإسلام ، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين .

257 - فإذا اتفق ما ذكرناه ، فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام ، ويعزى هذا المذهب إلى شيخنا أبي الحسن ، والأستاذ أبي إسحق الإسفراييني - رضي الله عنه - وغيرهما ، وابتغى هؤلاء مصلحة الخلق ، وقالوا : إذا كان الغرض من الإمامة استصلاح العامة ، وتمهيد الأمور ، وسد الثغور ، فإذا تيسر نصب إمام واحد نافذ الأمر ، فهو أصلح لا محالة في مقتضى السياسة والإيالة ، وإن عسر [ ص: 176 ] ذلك ، ولا سبيل إلى ترك الذين لا يبلغهم نظر الإمام مهملين لا يجمعهم وازع ، ولا يردعهم رادع ، فالوجه أن ينصبوا في ناحيتهم وزرا يلوذون به ، إذ لو بقوا سدى ، لتهافتوا على ورطات الردى . وهذا ظاهر لا يمكن دفعه .

258 - وأنا أقول فيه : مستعينا بالله تعالى : إن سبق عقد الإمامة لصالح لها ، وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الأقطار ، ثم ظهر ما يمنع من انبثاث نظره ، أو طرأ ، فلا وجه لترك الذين لا يبلغهم أمر الإمام مهملين ، ولكنهم ينصبون أميرا يرجعون إلى رأيه ويصدرون عن أمره ويلتزمون شريعة المصطفى فيما يأتون ويذرون ، ولا يكون ذلك المنصوب إماما ، ولو زالت الموانع ، واستمكن الإمام من النظر لهم ، أذعن الأمير والرعايا للإمام ، وألقوا إليه السلم ، والإمام يمهد عذرهم ، ويسوس أمرهم ، فإن رأى تقرير من نصبوه فعل ، وإن رأى تغيير الأمر ، فرأيه المتبوع ، وإليه الرجوع .

259 - وإن لم يتقدم نصب إمام كما تقدم تصويره ، ولكن [ ص: 177 ] خلا الدهر عن إمام في زمن فترة ، وانفصل شطر من الخطة عن شطر ، وعز نصب إمام واحد ، يشمل رأيه البلاد والعباد ، فنصب أمير في أحد الشطرين للضرورة في هذه الصورة ، ونصب أمير في القطر الآخر منصوب ، ولم يقع العقد الواحد على حكم العموم ، إذا كان يتأتى ذلك ، فالحق المتبع في ذلك أن واحدا منهما ليس إماما ، إذ الإمام هو الواحد الذي به ارتباط المسلمين أجمعين .

ولست أنكر تجويز نصبهما على حسب الحاجة ، ونفوذ أمرهما على موجب الشرع ، ولكنه زمان خال عن الإمام ، وسيأتي في خلو الزمان عن الإمام أكمل شرح وتفصيل ، فهو أحد غرضي الكتاب اللذين عليهما التعويل .

فإن اتفق نصب إمام ، فحق على الأميرين أن يستسلما له [ ص: 178 ] ليحكم عليهما بما يراه صلاحا أو استصلاحا . وهذا بيان مضمون الباب ، وإيضاح سره .

260 - ثم فرع المتكلفون مسائل لا يكاد يخفى مدركها على المحصل المتأمل ، ونحن نذكر فيه ما يتضح به الغرض ، ويرشد إلى أمثاله وأشكاله .

فلو اتفق نصب إمامين في قطرين ، وكانا صالحين للإمامة مستجمعين للصفات المرعية ، وعقد لكل واحد الإمامة على حكم العموم ، ولم يشعر العاقدون في كل ناحية بما جرى في الناحية الأخرى ، ولكن بين كل قوم ما أنشأوه من الاختيار والعقد على أن يتفرد من اختاروه بالإمامة . فإن اتفق ذلك ، فلا شك أن لا تثبت الإمامة لهما ; لما سبق تقريره ، فإن منصب الإمامة يقتضي الاستقلال بالأشغال ، كما تقدم ، وجمع مستقلين بالزعامة الكبرى محال .

261 - واختلف الفقهاء في جواز نصب قاضيين في بلدة واحدة على تقدير عموم ولاية كل واحد منهما في جميع البقعة ، والأصح منع ذلك في القاضيين ، وذلك مظنون ، من جهة أن الإمام من وراء القضاة والولاة ، والمستنابين في الأعمال . فإن فرض تنازع ، وتمانع بين واليين كان وزر المسلمين مرجوعا إليه في الخصومات الشاجرة

[ ص: 179 ] 262 - وأما الإمامة فهي الغاية القصوى ، وليس بعدها تقدير مرجوع إليه ومتبوع ; فيستحيل فرض إمامين نافذي الحكم عموما .

فإذا عقدت الإمامة لرجلين كما سبق تصويره ، نظر : فإن وقع العقدان معا ، لم يصح واحد منهما ، ويبتدئ أهل الاختيار عقد الإمامة لمستصلح لها ، وإن تقدم أحد العقدين ، فهو النافذ ، والمتأخر مردود . وإن غمض التاريخ ، وعسر إثبات المتقدم منها بالبينة ، كان كما لو تحققنا وقوع العقدين معا ، إذ لا وجه لتعطيل البيضة عن منصب الإمام ، ولا سبيل إلى ترك الأمر مبهما ، مع تحقيق اليأس من الاطلاع على تاريخ الإنشاء والإيقاع . ولو ادعى أحد المختارين تقدما ، ورام تحليف الثاني لم يجب إليه ، فإن هذا الخطب العظيم يجل عن الإثبات باليمين والنكول ، والإمام نائب عن المسلمين أجمعين ، ولا سبيل إلى تحليف النائب ، ومقصود الحق لغيره ، فهذا المقدار مقنع كاف في غرض الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية