الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
فصل .

نظر الإمام في فروع الدين .

287 - فأما القول في ذكر تفاصيل نظر الإمام في فروع الدين فهذا مما يتسع فيه الكلام ، وتكثر الأقسام ، ونحن بعون الله تعالى لا نقصر في التقريب ، وتحسين الترتيب ، والنظم البديع العجيب ، فذو البيان من إذا تبدد المقصد وانتشر ، لأم الأطراف وضم النشر ، وإذا ضاق نطاق النطق ، استطال بعذبة لسانه ، وعبر عن غاية المقصود بأدنى بيانه .

288 - فأقول : قد يبتدر إلى ظن المنتهي إلى هذا الموضع أني أريد بما أفتتحه تفصيل تصرفات الإمام في فروع الشريعة ، وليس الأمر كذلك ; فإن الغرض الآن بيان ما يتعلق بالعبادات البدنية ، ليتلو القول فيها ما سبق تقريره في أصل [ ص: 198 ] الدين ، وينتظم أصل الدين بفرعه ، وذكر ما يتعلق بالأئمة في المعاملات والتصرفات المالية سيأتي في القسم الثاني المشتمل على ذكر نظر الإمام في أحكام الدنيا .

فنعود إلى المقصود الناجز ; ونقول :

289 - العبادات البدنية التي تعبد الله بها المكلفين ، لا تتعلق صحتها بنظر الإمام ، وإذا أقامها المتعبدون على شرائطها وأركانها في أوقاتها وأوانها ، صحت ووقعت موقع الاعتداد . وقد زل من شرط في انعقاد الجمعة تعلقها بإذن الإمام . واستقصاء القول في ذلك مطلوب من علم الشريعة .

فإن قيل : ما وجه ارتباط العبادات بنظر الإمام ؟ .

290 - قلنا : ما كان منها شعارا ظاهرا في الإسلام ، تعلق به نظر الإمام .

وذلك ينقسم إلى : ما يرتبط باجتماع عدد كبير ، وجم غفير ، كالجمع والأعياد ومجامع الحجيج .

[ ص: 199 ] ما لا يتعلق باجتماع ، كالأذان وعقد الجماعات فيما عدا الجمعة من الصلوات .

فأما ما يتعلق بشهود جمع كبير ، فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه ، فإن الناس إذا كثروا عظم الزحام ، وجمع المجمع أخيافا ; وألف أصنافا ، خيف في مزدحم القوم أمور محذورة .

فإذا كان منهم ذو نجدة وبأس ، يكف عادية إن هم بها معتدون كان الجمع محروسا ، ودرأت هيبة الوالي ظنونا وحدوسا ، ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة أبا بكر - رضي الله عنه - على الحجيج ، ثم استمرت تلك السنة في كل سنة ، فلم يخل حج عن إمام ، أو مستناب من جهة إمام ، ولذلك صدر الخلفاء مياسير الأمراء ، وذوي الألوية بإقامة الجمع ، فإنها تجمع الجماعات ، وهي إن لم تصن عرضة الفتن والآفات .

[ ص: 200 ] فهذا وجه نظر الإمام في الشعار الذي يجمع جمعا كثيرا .

291 - فأما الشعار الظاهر الذي لا يتضمن اجتماع جماعات ، فهو كالأذان وإقامة الجماعات في سائر الصلوات ، فإن عطل أهل ناحية الأذان والجماعات ، تعرض لهم الإمام ، وحملهم على إقامة الشعار ، فإن أبوا ففي العلماء من يسوغ للسلطان أن يحملهم عليه بالسيف ، ومنهم من لم يجوز ذلك ، والمسألة مجتهد فيها ، وتفصيلها موكول إلى الفقهاء .

292 - فأما ما لم يكن شعارا ظاهرا من العبادات البدنية ، فلا يظهر تطرق الإمام إليه إلا أن ترفع إليه واقعة فيرى فيها رأيه .

مثل أن ينهى إليه أن شخصا ترك صلاة متعمدا من غير عذر ، وامتنع عن قضائها . فقد نرى قتله على رأي الشافعي - رضي الله عنه - أوحبسه وتعذيبه على رأي الآخرين .

فهذا مجموع القول فيما يتعلق بالأئمة من أصل الدين وفروعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية