الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
فصل .

طلب ما لم يحصل .

304 - فأعود الآن إلى تفصيل الأقسام .

فأما الجهاد فيتعلق به أمر كلي ، وقد يغفل المتجرد للفقه عنه ، فأقول : [ ص: 207 ] ابتعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الثقلين ، وحتم على المستقلين بأعباء شريعته دعوتين : إحداهما : الدعوة المقرونة بالأدلة والبراهين ، والمقصد منها إزالة الشبهات ، وإيضاح البينات ، والدعاء إلى الحق بأوضح الدلالات .

والأخرى : الدعوة القهرية المؤيدة بالسيف المسلول على المارقين الذين أبوا واستكبروا بعد وضوح الحق المبين .

فأما البراهين ، فقد ظهرت ولاحت ومهدت ، والكفار بعد شيوعها في رتب المعاندين ، فيجب وضع السيف فيهم ، حتى لا يبقى عليها إلا مسلم أو مسالم .

305 - وقد قال طوائف من الفقهاء : الجهاد من فروض الكفايات ، فإذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين ، وإن تعطل الجهاد حرج الكافة ، على تفاصيل معروفة في مسالك الفقه .

[ ص: 208 ] ثم قالوا : يجب أن ينتهض إلى كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار ، عند الاقتدار عسكر جرار في السنة مرة واحدة ، وزعموا أن الفرض يسقط بذلك .

306 - وهذا عندي ذهول عن التحصيل ; فيجب إدامة الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان ، ولا يتخصص ذلك بأمد معلوم في الزمان ، فإن اتفق جهاد في جهة ، ثم صادف الإمام من أهل تلك الناحية غرة ، واستمكن من فرصة ، وتيسر إنهاض عسكر إليهم ، تعين على الإمام أن يفعل ذلك .

ولو استشعر من رجال المسلمين ضعفا ، ورأى أن يهادن الكفار عشر سنين ، ساغ ذلك ، فالمتبع في ذلك الإمكان لا الزمان .

ولكن كلام الفقهاء محمول على الأمر الوسط القصد في غالب العرف ، فإن جنود الإسلام إذا لم يلحقها وهن ، ولم يتجاوز عددهم وعددهم المعروف في مستمر العرف ، فإذا غزت فرقا [ ص: 209 ] أحزابا في أقطار الديار ، فكابدوا من الشقاء والعناء ووعثاء الأسفار ، ومصادمة أبطال الكفار ما كابدوا ، وعضهم السلاح ، وفشى فيهم الجراح ، وهزلت دوابهم ، وتبترت أسبابهم ، فالغالب أنهم لا يقوون على افتتاح غزوة أخرى ، ما لم يتودعوا سنة ، فجرى ما ذكروه على حكم الغالب .

فأما إذا كثر عدد جند الإسلام ، واستمكن الإمام من تجهيز جيش بعد انصراف جيش ، فليفعل ذلك جادا مجتهدا ، عالما بأنه مأمور بمكاوحة الكفار ما بقي منهم في أقاصي الديار ديار ، ثم لا يؤثر لذوي البأس والنجدة من المسلمين الاستئثار ، والانفراد والاستبداد بالأنفس في الجهاد ، بل ينبغي أن يصدروا عن رأي صاحب الأمر ، حتى يكون كالئهم ، وردأهم ، ومراعيهم من ورائهم ، فلا يضيعون في غالب الظنون .

[ ص: 210 ] 307 - ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها الأئمة ، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ، ولا يغفلوا عنه ، كتجهيز الموتى ، ودفنهم ، والصلاة عليهم .

وأما الجهاد فموكول إلى الإمام ، ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره ، فيصير أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان ، والسبب فيه أنه تطوق أمور المسلمين ، وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم ، فمن حيث انتاط جر الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام ، وهو نائب عن كافة أهل الإسلام ، صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها .

308 - وأما سائر فروض الكفايات ، فإنها متوزعة على العباد في البلاد ، ولا اختصاص لها بالإمام . نعم . إن ارتفع إلى مجلس [ ص: 211 ] الإمام أن قوما في قطر من أقطار الإسلام يعطلون فرضا من فروض الكفايات زجرهم وحملهم على القيام به .

فهذا منتهى ما أردناه في الجهاد .

309 - ثم القول في كيفية القتال والغنائم والأسرى من النساء والذراري والمقاتلة يستقصى في كتاب السير من كتب الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية