الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
319 - فأما العقوبات التي يقيمها على آحاد الناس فهي منقسمة إلى الحدود والتعزيرات .

فأما الحدود فاستقصاء القول في مقتضياتها ، وتفاصيل المذاهب في كيفياتها ، وإقاماتها في أوقاتها ، وسبيل إثباتها ، وذكر مسقطاتها مذكورة في كتب الفقه ، وهي بجملتها مفوضة إلى الأئمة ، والذين يتولون الأمور من جهتهم .

والقصاص في النفس والطرف . فإن كان خالص حق الآدمي ; فليس لمستحقيه استيفاؤه دون الرفع إلى السلطان .

[ ص: 218 ] 320 - وأما التعزيرات ، فهي أيضا مفصلة في كتب الفقه في أبواب متعلقات بموجبات لها وأسباب : فمنها ما يكون حقا للآدمي يسقط بإسقاطه ، ويستوفى بطلبه ، ومنها ما يثبت حقا لله تعالى لارتباطه بسبب هو حق الله . ثم رأى الشافعي - رحمه الله - أن التعزيرات لا تتحتم تحتم الحدود ، فإن الحدود إذا ثبتت فلا خيرة في درئها ، ولا تردد في إقامتها ، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الإمام . فإن رأى التجاوز والصفح تكرما ، فعل ، ولا معترض عليه ، فيما عمل . وإن رأى إقامة التعزير تأديبا وتهذيبا فرأيه المتبع ، وفي العفو والإقالة متسع .

والذي ذكرناه ليس تحيزا مستندا إلى التمني ، ولكن الإمام يرى ما هو الأولى ، والأليق والأحرى ، فرب عفو هو أوزع لكريم من تعزير ، وقد يرى ما صدر عنه عثرة هي بالإقالة حرية ، والتجاوز عنها يستحث على استقبال الشيم المرضية ، ولو يؤاخذ الإمام الناس بهفواتهم ، لم يزل دائبا في عقوباتهم ، وقد قال المصطفى [ ص: 219 ] - عليه السلام - : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " ولو تجاوز عن عرم خبيث لا يزداد بالتجاوز عنه إلا تماديا واستجراء ، وتهجما واعتداء ، فليس له الصفح والحالة هذه .

321 - ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء . وما يتعين الاعتناء به الآن ، وهو مقصود الفصل أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تستد إلا على رأي مالك - رضي الله عنه - وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات ، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير . ونقل النقلة عنه أنه قال : للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها .

322 - وذهب بعض الجهلة عن غرة وغباوة أن ما جرى في صدر الإسلام من التخفيفات ، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد [ ص: 220 ] بصفوة الإسلام ، وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير والمقدار القريب من التعزير ، وأما الآن ، فقد قست القلوب ، وبعدت العهود ، ووهنت العقود ، وصار متشبث عامة الخلق الرغبات والرهبات ، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات ، لما استمرت السياسات .

323 - وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء ، وهو على الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث به سيد الأنبياء .

وعلى الجملة من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ، ومقتضى رأي الحكماء ، فقد رد الشريعة ، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة .

ولو جاز ذلك ، لساغ رجم من ليس محصنا إذا زنا في زمننا هذا لما خيله هذا القائل ، ولجاز القتل بالتهم في الأمور الخطيرة ، ولساغ إهلاك من يخاف غائلته في بيضة الإسلام ، إذا ظهرت المخايل والعلامات ، وبدت الدلالات ، ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات .

[ ص: 221 ] 324 - وهذه الفنون في رجم الظنون ، لو تسلطت على قواعد الدين ، لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعا ، ولانتحاه ردعا ومنعا ، فتنتهض هواجس النفوس حالة محل الوحي إلى الرسل . ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ; فلا يبقى للشرع مستقر وثبات .

هيهات هيهات . ثقل الاتباع على بعض بني الدهر ، فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد ، في دين الله أساسا ، ولاستصوابه راسا ، حتى ينفض مذرويه ، ويلتفت في عطفيه اختيالا وشماسا .

فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير .

325 - فإن سطا معتد ، وتعدى مراسم الشرع ، فلير ذلك حيدا عن دين المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على القطع ، ومن اعتدى عالما أنه [ ص: 222 ] ارتكب ذنبا واقتحم حوبا ، فهو عاص غير آيس من رحمة الله تعالى .

والويل كل الويل لمن يقترف الكبائر ، ويراها بمقتضى الاستصواب الذي عن له عن دين المصطفى .

فالحق المتبع ما نقله الأثبات عن سيد الورى ، وما سواه محال ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ .

وما أقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ سنن الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدة الدين ، ومن تشبث بهذا ، فقد انسل عن ربقة الدين انسلال الشعرة عن العجين .

326 - وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي ; وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي ، لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال ، فقد حكى لي بعض المرموقين بالعقل الراجح حكاية ، فقال : دخل بعض العلماء على بعض الملوك ، فسأله الملك عن الوقاع [ ص: 223 ] في نهار رمضان ، فقال مجيبا : على من يصدر ذلك منه صوم شهرين متتابعين .

فقيل للعالم - بعد انفصاله عن المجلس - أليس إعتاق الرقبة مقدما على الصيام في حق المقتدر عليه ؟ والسائل كان ملك الزمان الذي تركع له التيجان . فقال : لو ذكرت له الإعتاق لاستهان بالوقاع في رمضان ، ولأعتق عبدا على الفور في المكان . فإذا علمت أنه يثقل عليهم صوم شهرين تباعا ذكرته ليفيده ارعواء وامتناعا .

327 - وأنا أقول : إن صح هذا من معتز إلى العلماء ، فقد كذب على دين الله ، وافترى ، وظلم نفسه ، واعتدى ، وتبوأ مقعده من النار في هذه الفتوى ، ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمر الأقصى ، ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا ، وقولا وازعا [ ص: 224 ] فاجعا ، لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله ، وأليم عقابه ، وحاق عذابه ، وأبان له أن الكفارات ، وإن أتت على ذخائر الدنيا ، واستوعبت خزائن من غبر ومضى ، لما قابلت هما بخطيئة في شهر الله المعظم وحماه المحرم . وذكر له أن الكفارات لم تثبت ممحصات للسيئات ، وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف .

ولو ذهبنا نكذب للملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله بالرأي ، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح ، فإنه قد يشيع في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم ، فلا يعتمدونهم ، وإن صدقوهم . فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب على الله ، وعلى رسوله ، والسقوط عن مراتب الصادقين ، والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين .

[ ص: 225 ] 329 - فإن قيل : أليس روي أن حد الشرب كان أربعين جلدة في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم رأى عمر - رضي الله عنه - لما تتابع الناس في شرب الخمر ، واستقلوا ذلك القدر من الجلد أن يجلد الشارب ثمانين ، وساعده علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه .

قلنا : هذا قول من يأخذ العلم من بعد ! ! ! ليعلم هذا السائل أن عقوبة الشارب لم تثبت مقدرة محدودة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل روي أنه رفع إلى مجلسه شارب بعد تحريم الخمر ، فأمر الحاضرين بأن يضربوه بالنعال ، وأطراف الثياب ، ويبكتوه ، ويحثوا التراب عليه .

ثم رأى أبو بكر الجلد ، فكان يجلد أربعين . مجتهدا غير بان على توقيف وتقدير في الحد ، ثم رأى عمر ما رأى .

[ ص: 226 ] وقد قال علي - رضي الله عنه - : " لا أحد رجلا فيموت ، فأجد في نفسي منه شيئا من أن الحق قتله إلا شارب الخمر : فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

فكأن عقوبة الشارب تضاهي التعزيرات المفوضة إلى رأي الأئمة في مقدارها . وإن كان لا يسوغ الصفح عنها .

فكيف يستجيز السائل أن يتخذ قصة مشكلة على الصحابة ملاذه في تغيير دين المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

وإذ قضيت من هذا الفصل وطري فأقول بعده :

330 - لست أرى للسلطان اتساعا في التعزير إلا في إطالة الحبس ، وهو صعب الموقع جدا ، وليس الحبس ثابتا في [ ص: 227 ] حد ، حتى يحط التعزير عنه ، ويسوغ للقاضي أن يحبس في درهم أمدا بعيدا إلى اتفاق القضاء أو الإبراء .

وقد منع بعض الفقهاء تبليغ مدة الحبس في التعزير سنة نظرا إلى مدة التغريب في حد الزنا ، وهذا فاسد عندي ; لما قدمت ذكره ; وليس التغريب حدا كاملا فينقص عليه تعزير ، وإنما هو جزء من حد فليتفطن لذلك الناظر .

331 - وقد كنت أحلت على هذا الفصل شيئا من أمور الدين ، وهذا أوان الوفاء به ، فأقول : إن نبغ في الناس داع في الضلالة ، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته ، فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعده لو حاد عن ارتسام أمره وأباه ، فلعله ينزجر وعساه ، ثم يكل به موثوقا به حيث لا يشعر به ولا يراه ، فإن عاد إلى ما عنه نهاه ، بالغ في تعزيره ، وراعى حد الشرع ، وتحراه ، ثم يثني عليه الوعيد والتهديد ، ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر ، ويرشح مجهولين [ ص: 228 ] يجلسون إليه على هيئات متفاوتات ، ويعتزون إلى مذهبه ، ويسترشدونه ، ويتدرجون إلى التعلم والتلقي منه . فإن أبدى شيئا أطلعوا السلطان عليه ; فيتسارع إلى تأديبه ، والتنكيل به ، وإذا تكرر عليه ذلك ، أوشك أن يمتنع ويرتدع .

ثم إن انكف ، فهو الغرض ، وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطان تنكيله وعقوباته ، فتبلغ العقوبات مبالغ تربي على الحدود ، وإنما يتسبب إلى تكثير العقوبات بأن يبادره بالتأديب مهما عاد ، وإذا تخللت العقوبات في أثناء موجباتها ، تعددت وتجددت ، فلا يبرأ جلده عن تعزير وجلدات نكال ، حتى تحل به عقوبة أخرى .

332 - والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع ، وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة ، ويتعدوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة .

[ ص: 229 ] والمسلك الذي مهدناه يتضمن الزجر الأعظم ، والردع الأتم ، واستمرار العقوبات ، مع تقدير المعاودات . فإن انكف بالقليل - والكثير محرم - فلا أرب في تعذيب مسلم ، وإن أبى عدنا له .

وإنما ينسل عن ضبط الشرع من لم يحط بمحاسنه ، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه ، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة ، لألفاها أو خيرا منها في وضع الشرع .

ولو لم يأمن الإمام مع التناهي في المراقبة والمثابرة والمواظبة غائلة المبتدع أطال حبسه وحصر نفسه .

333 - فهذا مسلك السداد ، ومنهج الرشاد والاقتصاد ، وما عداه سرف ومجاوزة حد ، وغلو وعتو ، والأنبياء - عليهم السلام - مبعوثون بحسم المراسم ، والدعاء إلى قصد الأمور .

334 - وما يتعلق بما نحن فيه أن المتعلقين بضبط الأحوال على حكم الاستصواب في كل باب ، يرون ردع أصحاب التهم قبل إلمامهم بالهنات ، والسيئات ، والشرع لا يرخص في ذلك .

[ ص: 230 ] والذي انتزعت من الشرع ما يقرب سبل تحصيل الغرض في هذا : فمن آداب الدين أن لا يقف الإنسان في مواقف التهم ، فالوجه أن ينهى الإمام من يتصدى لها عن ذلك على جزم وبت ، فإن عاد عاقبه على مخالفته أمر سلطانه ، واستجرائه على والي زمانه ، فيكون هذا تطرقا إلى الردع على موجب الشرع .

335 - ومما كنت أحلته من الأمور الدينية على هذا الفصل القول في توبة الزنديق ، وقد ذهبت طوائف من سلف هذه الأمة إلى أنه لا تقبل توبته بعدما ظهرت زندقته ، فإن من عقده أن يظهر خلاف ما يضمر ، ويتقي الناس ، ويبدي الوفاق ; ويضمر الالتباس فالذي أبداه من توبته عين مذهبه في زندقته .

[ ص: 231 ] 336 - وهذا خارج عندي عن قاعدة الشريعة ; فإني لا أعرف خلافا أن عسكرا من عساكر الإسلام إذا أناخوا بساحة الكفار ، فلما أظلتهم السيوف ، وعاينوا مخايل الحتوف ، نطقوا بكلمتي الشهادة ، فيحكم بإسلامهم ، وإن تحققنا أنهم لم يلهموا الهداية لدين الحق الآن .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداري المنافقين مع القطع وتواتر الوحي بنفاقهم وشقاقهم ، وهو القدوة والأسوة ، فالوجه إذا في كف شر ما قدمنا ذكره في دفع عادية الداعي إلى بدعته ، والتسبب إلى الحبس بالمسلك المذكور لائق بالزنادقة .

فهذا منتهى القول في ذلك ، ولا يدرك ما ضمناه هذا الفصل من الجمع بين مقاصد ذوي الإيالة وموافقة الشريعة ، إلا من وفر حظه من العلوم ، ودفع إلى مضائق الحقائق ، والله المشكور على الميسور والمعسور ، إنه الودود الغفور .

انتهى مرامنا فيما يتعلق بالعقوبات من أحكام الإيالات .

[ ص: 232 ] القيام على المشرفين على الضياع .

التالي السابق


الخدمات العلمية