الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
337 - ولم يبق مما رسمناه في حفظ من في الخطة إلا القيام على المشرفين على الضياع ، وقد ذكرنا أن ذلك ينقسم إلى الولايات ، وإلى سد الحاجات ، وإنقاذ ذوي الفاقات .

فأما الولاية ، فالسلطان ولي من لا ولي له من الأطفال والمجانين ، وهي تنقسم إلى ولاية الإنكاح وحفظ الأموال .

واستيفاء القول في الولايتين من فن الفقه ، فليطلبه طالبه من المشتغلين به .

338 - وأما سد الحاجات والخصاصات فمن أهم المهمات ، ويتعلق بهذا ضرب من الكلام الكلي ، وقد لا يلفى مجموعا في الفقه .

فأقول : إذا بنينا على غالب الأمر في العادات ، وفرضنا انتفاء الزمان عن الحوائج والعاهات ، وضروب الآفات ، ووفق [ ص: 233 ] المثرون الموسرون لأداء الزكوات ، انطبقت فضلات أموال الأغنياء على أقدار الحاجات .

وإن قدرت آفة وأزم وقحط وجدب ، عارضه تقدير رخاء في الأسعار تزيد معه أقدار الزكوات على مبالغ الحاجات ، فالوجه استحثاث الخلق بالموعظة الحسنة ، على أداء ما افترض الله عليهم ، في السنة ، فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون لم تف الزكوات بحاجاتهم ، فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله ، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر ، فإن انتهى نظر الإمام إليهم ، رم ما استرم من أحوالهم ، من الجهات التي سيأتي عليها شرحنا إن شاء الله عز وجل .

[ ص: 134 ] 339 - فإن لم يبلغهم نظر الإمام ، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم ، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين ، حرجوا من عند آخرهم ، وباءوا بأعظم المآثم ، وكان الله طليبهم وحسيبهم .

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يبيتن ليلة شبعان وجاره طاو " وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات ، فحفظ مهج الأحياء ، وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم .

340 - ومقصود هذا الفصل ما نذكره الآن : فلو بلي أهل بلد بقحط ، وكشرت الشدة عن أنيابها ، وبثت المنون بدائع أسبابها ، وعلم من معه بلاغ أنهم لو صفروا أيديهم ، وفرقوا ما معهم ، لافتقروا افتقارهم ، فلا نكلفهم أن [ ص: 235 ] ينهوا أنفسهم إلى الضرر الناجز ، والافتقار العاجل ; فإنهم لو فعلوا ذلك هلكوا مع الهالكين ، ولو تماسكوا أوشك أن يبقوا ، ويبقى ببقائهم من نفضات أموالهم مضرورون ، وغايتنا أن نذكر الأصلح على أقصى الإمكان ، وما قدر الله أن يكون كان .

341 - ولا يبين ما نحاوله إلا بذكر مسألة على الأحكام تخالف بظاهرها ما افتتحناه : فلو فرضنا مصطحبين في الأسفار في بعض القفار ، وانتهى أحدهما إلى المخمصة ، ومع الثاني ما يبلغه في غالب الظن إلى العمران ، فيتعين عليه ، والحالة هذه أن يسد رمق رفيقه ، ويكتفي ببلاغ يكفيه في طريقه . ولا نكلف الموسرين في هذه الشدة أن ينتهوا إلى كفاية يومهم ، ويفرقوا باقي أموالهم على المحاويج ، ويرقبوا أمر الله في غدهم ، ولا يسوغ لهم أن يغفلوا عن أمور المساكين أصلا ، ويتركوهم يموتون هزلا .

والأمر في الرفيقين مفروض فيه إذا قرب وصولهما إلى البلدان [ ص: 236 ] والعمران ، ولا يعوز فيها سداد . وامتداد آماد القحط لا يفضي إلى منتهى العلوم .

وهذا يناظر ما لو كان الرفيقان في متاهات لا يدريان متى تنتهي بهما إلى العمران ، فلا نكلف من معه زاد واستعداد أن يؤثر على نفسه ، ويجتزئ بحاجة يومه أو وقته .

342 - فإذا تقرر ما ذكرناه ، فالوجه عندي إذا ظهر الضر ، وتفاقم الأمر ، وأنشبت المنية أظفارها ، وأشفى المضرورون ، واستشعر الموسرون ، أن يستظهر كل موسر بقوت سنة ، ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات ، وأصحاب الخصاصات ، ولست أقول أن منقرض السنة يستعقب انجلاء المحن ، وانفصال الفتن على علم أو ظن غالب . ولكن لا سبيل إلى ترك الفقراء على ضرهم ، ولا نعرف توفيقا في الشرع ضابطا ينتهي إليه فيما يبذله الموسر ، وفيما يبقيه ، ورأينا في السنة قواعد شرعية تشير إلى هذه القضية ، وفي اعتبار السنة أيضا حالة ظنية عقلية .

[ ص: 237 ] 343 - فأما أمارات الشرع فمن أقربها تعلق وظيفة الزكاة بانقضاء السنة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوت سنة .

فأما الأمر العقلي ، فقد يظن أن الأحوال تتبدل في انقضاء السنة ، فإنها مدة الغلات ، وأمد الثمرات ، وفيها تحول الأحوال ، وتزول وتعتقب الفصول . ثم الباذلون في بذلهم على غرر وخطر . ولكن ما ذكرناه أقصد معتبر ، وما ذكرته بيان ما يسوغ ، وليس أمرا مجزوما ، ولا حكما محتوما ، فمن طابت نفسه بإيثار أخيه على نفسه ، فالإيثار من شيم الصالحين ، وسير الموفقين .

فهذا منقرض القول في الأمور الجزئية ، التي تتعلق بالإمام في حفظ من في خطة الإسلام .

344 - فإن قيل : لم تذكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

قلنا : الشرع من مفتتحه إلى مختتمه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، وما يتعلق بالإمام فيه ما فصلناه ، والدعاء إلى المعروف والنهي [ ص: 238 ] عن المنكر يثبت لكافة المسلمين ، إذا قدموا بثبت وبصيرة ، وليس إلى الرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب ، من غير فظاظة وملق . ومن ظهر منه الصدق والديانة ، وتجرد لله تعالى ، وأوضح الحق وأبانه ، على تخضع لله واستكانة ، ثم زان برفقه شانه ، وما دخل الرفق أمرا إلا زانه ، نجع كلامه في المستكبرين في زمانهم ، المتولين بأركانهم فإن لم يرعوا ; لم يكن للرعية المكاوحة ، وشهر الأسلحة ، ولكنهم ينهون الأمور إلى الولاة ، ثم إنهم يرون رأيهم في فنون الردع ، كما سبق تفصيلها .

345 - فإن قيل : أليس الولاة يعتنون بتقويم المكاييل والموازين ؟ قلنا : إن تولى السلطان أبوابا في الأمر بالمعروف ، فلا معترض عليه فيها ، ولكن لا يختص به إلا ما يتعلق بالسياسة . ولو تصدى للأمر بالتقويم ، والجريان على المنهج القويم ، والمسلك [ ص: 239 ] المستقيم آحاد من المسلمين محتسبين ، كانوا غير ممنوعين ، ولا مدفوعين . نعم يتعلق بالوالي أن يكلف المتهم بالتطفيف عرض ميزانه ومكياله ، ولا يثبت ذلك لمن ليس مأمورا من جهة السلطان ، وهذا يدخل تحت ما تقدم من فصل العقوبات ، وردع المتهمين بما لا يرضى من الخيالات ، فلم أر إفراد الأمر بالمعروف بالذكر .

أما تفاصيل القول في الأمر بالمعروف فإنه يحويه كتاب يليق بالفقهاء أن يستقصوه ، فوكلوه إلى المتكلمين ، كما وكلوا إليهم التوبة ، وتفاصيل الأقوال في الخروج عن المظالم ، ولو حاولت قولا قريبا في الأمر بالمعروف وسيطا ، لأبر على قدر هذا الكتاب ، ولم يكن حاويا بسيطا .

انتهى القول في الكلي والجزئي ، مما يسوس به الإمام الرعية .

التالي السابق


الخدمات العلمية