الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
حكم نصب الإمام .

15 - فنصب الإمام عند الإمكان واجب .

16 - وذهب عبد الرحمن بن كيسان إلى أنه لا يجب [ ص: 23 ] ويجوز ترك الناس أخيافا ، يلتطمون ائتلافا واختلافا ، لا يجمعهم ضابط ، ولا يربط شتات رأيهم رابط . وهذا الرجل هجوم على شق العصا ، ومقابلة الحقوق بالعقوق ، لا يهاب حجاب الإنصاف ، ولا يستوعر أصواب الاعتساف ، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع ، والحيد عن سنن الاتباع .

17 - وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة ، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة .

18 - أما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا ; فتركوا لسبب التشاغل به تجهيز رسول الله ودفنه ، مخافة أن تتغشاهم هاجمة محنة .

19 - ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة ، والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعا ، ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع ، ولا يزعهم وازع ، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع ، مع تفنن الآراء ، [ ص: 24 ] وتفرق الأهواء لانتثر النظام ، وهلك العظام ، وتوثبت الطغام والعوام ، وتحزبت الآراء المتناقضة ، وتفرقت الإرادات المتعارضة ، وملك الأرذلون سراة الناس ، وفضت المجامع ، واتسع الخرق على الراقع ، وفشت الخصومات ، واستحوذ على أهل الدين ذوو العرامات ، وتبددت الجماعات ، ولا حاجة إلى الإطناب بعد حصول البيان ، وما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن .

20 - فإذا تقرر وجوب نصب الإمام ، فالذي صار إليه جماهير الأئمة أن وجوب النصب مستفاد من الشرع المنقول ، غير متلقى من قضايا العقول .

21 - وذهبت شرذمة من الروافض إلى أن العقل يفيد الناظر العلم بوجوب نصب الإمام .

واستقصاء القول في استحالة تلقي الأحكام من أساليب العقول [ ص: 25 ] بحر فياض لا يغرف ، وتيار مواج لا ينزف .

22 - والفئة المخالفة في هذا الباب أخذت مذهبها ، وتلقت مطلبها من مصيرها ، إلى أن الله - تعالى جده - يجب عليه استصلاح عباده ، وزعموا أن الصلاح في نصب الإمام ، واستمدوا في تقرير ما يحاولونه ، وتمهيد ما يزاولونه من الوجوه التي ذكرناها ، وهذا منهم جهل بحقيقة الإلهية ، وذهول عن سر الربوبية .

ومن وفق للرشاد ، واستد في منهج السداد ، واستقر في نظره على اتئاد ، علم أن من ضرورة تحقق الوجوب ، تعرض من عليه الوجوب للتأثر بالمثاب والعقاب ، ومن تصدى لطرق الغير ، وقبول الأثر ، فهو عرضة للآفات ، ودريئة لأسنة العاهات ، والقديم - تعالى - لا يلحقه نفع ، ولا يناله ضرر يعارضه دفع ، فاعتقاد الوجوب عليه زلل ، فهو الموجب بأمره ، فلا يجب عليه شيء من جهة غيره .

23 - ثم الأديان والملل ، والشرائع والنحل ، أحوج إلى الأنبياء ، المؤيدين بالمعجزات ، والآيات الباهرات ، منها إلى الأئمة ، فإذا [ ص: 26 ] جاز خلو الزمان عن النبي ، وهو معتصم دين الأمة ، فلا بعد في خلوه عن الأئمة .

24 - فقد ثبت أنا عرفنا وجوب نصب الإمام من مقتضى الشرع الذي تعبدنا به .

25 - ولو رددنا إلى العقول ، لم نبعد أن يهلك الله الخلائق ، ويقطعهم في الغوايات على أنحاء وطرائق ، ويغمسهم في غمرات الجهالات ، ويصرفهم عن مسالك الحقائق ، فبحكمه تردى المعتدون ، وبفضله اهتدى المهتدون ، " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " فهذا منتهى الغرض في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية