الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ د - القول في مستخلفي الإمام ]

[ ص: 291 ] فصل

415 - ليس من الممكن أن يتعاطى الإمام مهمات المسلمين في الخطة ، وقد اتسعت أكنافها ، وانتشرت أطرافها ، ولا يجد بدا من أن يستنيب في أحكامها ، ويستخلف في نقضها ، أو في إبرامها وإحكامها .

416 - وشغله الذي لا يخلفه فيه أحد مطالعات كليات الأمور ، إذ لو وكل ذلك إلى غيره ، وعمل على أن لا يبحث ، ولا يخبر ، ولا يفحص ، ولا ينقر ، وفوض ذلك إلى موثوق به ، ورسم له التشمير ، والبحث والتنقير ، وآثر التخلي لعبادة الله ، والانحجاز عن النظر في أمر الملة ، واختار الرفاهية ، والرغد ، والدعة ، و [ الدد ] - فذلك غير سائغ وهو مؤاخذ بحق الأمة يوم [ ص: 292 ] القيامة مطالب أو معاتب معاقب ، وإذا تمادى على ذلك ، فقد ينتهي الأمر إلى التفسيق ، وقد سبق القول فيه على التحقيق .

417 - فإن أراد أن يخلع نفسه ، فقد تقدم فيه قول بالغ ، وبيان شاف سائغ .

418 - فإذا منصب الإمام يقتضي القيام بالنظر العام في حقوق الرعايا والمستخلفين عليهم على ممر الأيام .

419 - فأما تفاصيل الأمور ، فما تولاه الإمام بنفسه فهو الأصل ، وما استخلف فيه كافيا ، مستقلا ، دارئا ، متيقظا فيما نيط به واعيا ، فالاستخلاف في تفاصيل الأعمال سائغ بلا خلاف .

ثم ما يستخلف فيه ينقسم إلى أمر خاص يحتوي على الغرض منه مراسم يبينها ، ومعالم يعينها ، فيعقد الإمام [ بمضمونها ] [ منشورا ] ويتخذه المولى دستورا .

وإلى أمر عام منتشر القضايا على الرعايا ، لا يضبط مقصوده برسوم ، ولا منشور منظوم .

[ ص: 293 ] 420 - فأما الأمر الخاص ، فهو كجباية الصدقات والموظفات على المعادن والمقطعات ، وما ضاهاها من الجهات ، فمن ولاه الإمام صنفا من هذه الأصناف ، ينبغي أن يكون المولى مستجمعا خصلتين :

إحداهما : الصيانة والديانة .

والثانية : الشهامة ، والكفاية اللائقة بما يتولاه ويتعاطاه ، ولا يشترط أن يكون مجتهدا بالغا مبلغ المفتين ، ولكن الإمام يرسم له مقادير النصب والزكوات ، وتفاصيل الأسنان على أبلغ وجه في البيان ، فيمضي المولى قدما ويتخذ المراسم قدوة وأمما ( 156 ) ولو كان المنصوب لما ذكرناه عبدا مملوكا - ساغ ، فإن أمثال هذه الأعمال ليست ولاية على الكمال .

421 - ومن هذا القبيل تفويض جر الأجناد إلى بلاد الكفر - والعياذ بالله - فليجتمع فيمن يقلد الأمر الثقة ، والصرامة ، والشهامة ، وليكن ممن حنكته التجارب ، وهذبته المذاهب [ لا [ ص: 294 ] يستفزه نزق ] ولا يضجره حنق ، ولا يبطئه عن الفرص إذا أمكنت خور ، بطرق للخدع ، كالصل النضناض ، ويتوثب في أوان الفرصة كالصقر يهوي في الانقضاض ، وليكن طبا بالغرر هجوما في مظان الحاجات على الغرر .

عارفا بغوائل القتال مصطبرا في ملتطم الأهوال ، محببا في الجند ، لا يمقت لفرط فظاظة ، مهيبا لا يراجع في الدنيات من غير حاجة ، ثم الإمام يقدم له مراسم في المغانم والأسرى ، يتخذها وزرا وذكرى .

وهذه الإمرة قريبة أيضا إذا اختصت بجر العساكر ، ويكفي فيها الثقة ، واستجماع ما أشرنا إليه من البصائر ، وعمدتها الشجاعة والاستطاعة ، والتيقظ اللائق بهذه الشأن ; فالرأي قبل شجاعة الشجعان .

422 - فأما الأمر الذي يعم ، ولا ينضبط مقصوده ، فهو كالقضاء والجلوس لفصل الحكومات بين الخصماء ، وقد يرتبط به [ ص: 295 ] أمور الأموال والأبضاع والدماء ، وإقامة العقوبات على ذوي الاعتداء والإنصاف والانتصاف ، والمنع من سلوك مسالك الاعتساف ، وهذا أعظم الأشغال والأعمال ، فيقتضي هذا المنصب خلالا في الكمال ، سيأتي شرحنا عليها .

منها : الدين ، والثقة ، والتلفع بجلباب الديانة ، والتشبث بأسباب الأمانة والصيانة ، والعقل الراجح الثاقب ، والرأي المستد الصائب ، والحرية والسمع والبصر .

ثم مذهب الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه - ابن عم المصطفى صلوات الله عليه : أن شرط التصدي للحكم بين العباد استجماع صفات الاجتهاد ، ولم يشترط أبو حنيفة - رضي الله عنه - ذلك .

وذكر الفقهاء هذه المسألة من فنون مسالك الظنون .

423 - والذي أراه القطع باشتراط الاجتهاد ، وسأوضح فيه منهج السداد بتقديم أصل عظيم الغناء في أحكام الاجتهاد ، [ ص: 296 ] فأقول ، وعلى طول الله وتيسيره الاعتماد ، وبفضله الاعتضاد : على المقلد ضرب من النظر في تعيين مقلده ، وليس له أن يقلد من شاء من المفتين مع تباين المذاهب ، وتباعد الآراء والمطالب ، وكيف يسوغ التخيير بين الأخذ بمذهب التحريم ومذهب التحليل ؟ ولا يتصور المصير إلى هذه السبيل مع تفاوت مناصب المفتين وأهل التحصيل .

وإذا كان يتعين عليه ذلك ، فليتمهل النظر هنالك .

فمن عن له من المقلدة أن مذهب الشافعي - [ رضي الله عنه وأرضاه ] - أرجح ، ومسلكه أوضح ، لأمور كلية اعتقدها ، وقضية لائقة بمقدار بصيرته اعتمدها ، فليس يعتقد - إن كان معه مسكة من العقل ، وتشوف إلى مقدمات من الفضل - أن إمامه تجب له العصمة عن الزلل والخطل ، بل لا معصوم إلا الرسل والأنبياء فيما يتعلق بتبليغ الرسالة والإنباء .

فما من مسألة تتفق إلا والمقلد يجوز أن يكون إمامه زالا في معانيها ، وظهور الحق مع من يخالفه فيها ، وإنما الذي غلب على وهمه على مبلغ علمه وفهمه أن إمامه بالإصابة في [ ص: 297 ] معظم المسائل ( 158 ) جدير ، فهذا غاية ما يدور في الضمير .

424 - وأقول بعد تقديم ذلك :

من انتحل مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - من طبقات المقلدين واتفق في عصره إمام لا يبارى ، ومجتهد لا يضاهى ولا يوازى وكان يعزى هذا المجتهد إلى مذهب الشافعي - رضي الله عنه - .

فلا يجوز أن يكون مثل هذا الذي ذكرناه متبعا مذهب إمام واحد في جميع مسائل الشريعة ، موافقا رأيه ومسلكه ، فإن الظنون تختلف طرقها ، وتتفاوت سبلها ، وتتردد أنحاؤها على حسب اختلاف القرائح والطباع .

وليس بالإجماع في معظم المسائل امتناع ; فإن أصول المذاهب تؤخذ من [ مأخذ ] القطع ، وهي التي تصدر منها تفاريع المسائل ، وقد يفرض الوفاق في معظم المسائل من هذه الجهة .

425 - فإذا اشتملت الأيام على مثل هذا الإمام تعين على كافة المقلدين اتباعه ، والسبب فيه أنه بالإضافة إلى الماضين المنقرضين في حكم الناخل للمذاهب ، والسابر لتباين المطالب ، وسبره لها أثبت من نظر المقلد .

[ ص: 298 ] 426 - والذي وضح الحق في ذلك أن زمر المقلدين لو أرادوا أن يتبعوا مذهب أبي بكر - رضي الله عنه - لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ، فإن الذين استأخروا بالأعصار عن المهاجرين والأنصار من أئمة الأمة أخبر بمذاهب الأولين ، وأعرف بطرق صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكرمين ، وقد كفوا من بعدهم النظر في طرائق المتقدمين ، وبوبوا الأبواب ، ومهدوا الأسباب ، وما كانت المسائل مترتبة متهذبة في العصر الأول ، فاستبان أن حق المقلد أن يربط استفتاءه بالأدنى فالأدنى ، والإمام الذي وصفناه في عصرنا بالإضافة إلى أبي حنيفة والشافعي من حيث نخل مذاهب الأولين من الأئمة السابقين بالإضافة إلى الخلفاء الراشدين ، وغيرهم من علماء الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا حق على المقلد أن يستفتي إمام عصره ، فإن لم يجد في زمانه إماما اتبع الذين مضوا وعول على نظر يصدر من مثله .

427 - فهذه مقدمة أطلت القول فيها ، والغرض منها في المسألة : أن القاضي إذا كان مجتهدا ، فلا شك أنه يستتبع المتحاكمين [ ص: 299 ] إلى مجلسه ، ولا يتبعهم ، فإن تكليفه اتباع المخالفين على تباعد المذاهب يجر تناقضا لا سبيل إلى الوفاء به ، ومنصب الولاية يقتضي أن يكون الوالي متبوعا لا محالة ، فلئن استتبع الوالي البالغ مبلغ المجتهدين المقلدين فليس ذلك بدعا ، فإنه أبر عليهم بمنصب الولاية ثم بالإمامة في الدين فإن استتبع مجتهدا فالسبب فيه أنه وإن ساواه في الاجتهاد ، [ فقد ] أربى عليه بالولاية ، وهي تقتضي الاستيلاء [ والاستعلاء ] والاحتواء على تفنن الآراء .

428 - فأما إذا فرضنا القاضي مقلدا ، فإن قلد إمام عصره ، فإنه يحمل مجتهدي الزمان على فتوى من يقلده ، ومعتمده ومعتضده الاجتهاد الضعيف الذي يعين به مقلده ، فكأنه يحمل المجتهدين على حكم نظره الضعيف .

وهذا محال ، لا يخفى بطلانه على المحصل .

429 - وإن قلد القاضي بعض الأئمة المنقرضين ، فتقليده هذا أضعف ، فإنه اعتقد على الجملة من غير تفصيل أن الذي يقلده [ ص: 300 ] أولى من غيره ، فينضم إلى ضعف نظره الكلي مزيد ضعف في أعيان المسائل ، فكيف يستقيم حمل أئمة المسلمين على نظر مقلد في تخير مقلد ؟ .

430 - والذي يقرر ذلك أن نظر المقلد في تعيين [ إمام ] ( 160 ) ليس نظرا حقيقيا ، وكيف ينظر من لا خبرة له ، فهو إذن نظر مسلكه الضرورة ، إذ لولاه ، لتعارض عليه التحريم والتحليل ، وما جرى مجرى الضرورات فسبيله أن يختص بالمضطر ، ولا يتعداه إلى من عداه ، كأكل الميتة يختص إباحته بمن ظهرت ضرورته ، واستبانت مخمصته .

فهذا قولي في اشتراط الاجتهاد في الذي يتصدى لفصل الخصومات بين العباد .

431 - ولئن عد الفقهاء ذلك من المظنونات ، فلست أعرف خلافا بين المسلمين أن الشطر أن يكون المستناب لفصل الخصومات والحكومات فطنا متميزا عن رعاع الناس ، معدودا من الأكياس ، ولا بد من أن [ يفهم ] الواقعة المرفوعة إليه على حقيقتها ، [ ص: 301 ] ويتفطن لموقع الإعضال ، وموضع السؤال ، ومحل الإشكال منها ، ثم يتخير مفتيا .

ويعتقد أن قوله في حقه بمثابة قول الرسول في حق الذين عاصروه ، فيتخذه قدوة وأسوة ، فأما إذا لم يفهم الواقعة فكيف يفرض نفوذ [ حكمه ] فيها ، وليس في عالم الله أخزى من متصد للحكم لو أراد أن يصف ما حكم به ، لم يستطعه .

432 - ومما يقضي اللبيب العجب منه انتصاب غر للقضاء ، لا يقف على الواقعة التي فيها القضية ، ولا يفهم العربية ، ويصغي إلى صكوك وقبالات متضمنها ألفاظ عويصة ، لا يحيط بفحواها ومقتضاها إلا مبرز تثنى عليه الخناصر ، ويعد من المرموقين والأكابر في اللغة العربية ، إذ منها صدر الألفاظ في [ ص: 302 ] أصول الفقه المشتمل على الخصوص والعموم والاستثناءات ، وسائر القضايا والموجبات في فن الفقه ( 161 ) فإليه الرجوع في مآخذ الأحكام والنقض والإبرام .

فليت شعري ما يعتاص مدركه ، ويستصعب مسلكه على المرتوي من هذه العلوم كيف ينفذ فيها قضاء من لا يفرق بين تقديمه وتأخيره ، ولا يعرف قبيله من دبيره ؟ ! وقد بدت مخايل الخرف .

و [ انتهى ] منه إلى الطرف ، ولو استوعب عمره الموفي على [ السرف ] بأقصى تشميره ، لم يقف من مضمون الصك على عشر من عشيره ، فهل في عالم الله خزي [ يبر ] على خطوط سطرها من لم يستقل - والله - بحروف التهجي منها ، حتى نظمها له ناظمان من جانبيه ، وألفها متطلعان عليه ، ومضمونها هذا حكمي [ ص: 303 ] وقضائي ، وقد أشهدت عليه من حضر مجلسي .

وتقديره هذا حكمي بما لم أفهمه ، وقضائي فيما لم أعلمه ، وقد أشهدت من هو حاضري بما لا يتصور في خاطري .

ما له ؟ قاتله الله كيف خروجه عن عهدة مثل هذا القضاء ، إذا حشر الراعي والرعية في قضاء ؟ والتقى الخصماء وأقيد للجماء من القرناء ، وجثى على الركب الأنبياء ؟ اللهم غفرا .

لولا حذار الانتهاء إلى الوقيعة لندبت الإسلام ، ورثيت الشريعة ، قد تعرضت - وحق الحق الأعظم - للغرر ، وتناهيت في اقتحام جراثيم الخطر ، " والرأي يهلك بين العجز والضجر " .

433 - فهذا مقدار غرضي اللائق لهذا المجموع في ذكر صفات الولاة والقضاة .

وفي آداب القضاة ، والدعاوى والبينات ، ومراتب الشهادات كتب معروفة في الفقه ، فليتبعها من ينتحيها ، وليطلبها من يدريها .

[ ص: 304 ] وقد نجز بحمد الله ، ومنه .

وحسن تأييده ، جوامع الكلام فيما يناط بالأئمة من أحكام الأمة ، وقد انتهى الكلام بعد نجاز هذه الأبواب إلى المغزى واللباب ، فأحسنوا الإصاخة معشر الطلاب إلى تجديد العهد بغرض الكتاب .

434 - فأقول : ما تقدم وإن احتوى على كل بدع عجاب في حكم التوطئة ، وتمهيد الأسباب ، فالمقصد فصلان :

أحدهما - تفصيل الأحكام المتعلقة بالإمام عند تقدير شغور الأيام عن وزر يلوذ به أهل الإسلام .

والثاني - بيان ما يتمسك به المكلفون فيما كلفوه من وسيلة وذريعة ، إذا عدموا المفتين ، وحملة الشريعة .

[ و ] إذا انقضى الفصلان نجز بانقضائهما مضمون هذا التصنيف والاتكال في التيسير على لطف الخبير اللطيف .

435 - فإن قيل : فإذا كان الفصلان الغرض ، فلم أطلت فيما قدمت القول في أبواب الإمامة ، وأحكام الرئاسة والزعامة ؟ [ ص: 305 ] قلت : لا يتأتى الوصول إلى درك تصوير الخلو عن الإمام لمن لم يحط بصفات الأئمة ، ولا يتقرر الخوض في تفاصيل الأحكام عند شغور الأيام ، ما لم تتفق الإحاطة بما يناط بالإمام .

فلم أذكر المقدمة ، ومستغن عنها . على أني أتيت فيها بسر الإيالة الكلية ، وسردت أمورا تتضاءل عنها القوى البشرية ، وتركتها منتهى الأمنية ، تذعن لها القلوب الأبية ، وتقرن لبدائعها النفوس العصية ، وتبتدرها أيدي النساخ في الأصقاع القصية ، وكأني بها [ و ] قد عمت بيمن أيام مولانا الخطط المشرقية والمغربية ، والله ولي التوفيق بمنه وفضله .

التالي السابق


الخدمات العلمية