الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 308 ] الباب الأول في انخرام الصفة المعتبرة في الأئمة

437 - قد تقدم قول شاف بالغ كاف ، فيما يشترط استجماع الإمام له من الصفات .

ونحن الآن نفرض في تعذر آحادها وأفرادها على التدريج ، ونبدأ بأقلها غناء ، ثم نترقى إلى ما [ يبر ] وقعه وأثره على ما تقدم ذكره ، حتى نستوعب معقود الباب ومقصوده ، بعون الله وتأييده ، ومنه وتسديده .

438 - فالذي يقتضي الترتيب تقديمه : النسب ، وقد تقدم أن الانتساب إلى قريش معتبر في منصب الإمامة ، فلو لم نجد قرشيا يستقل بأعبائها ، ولم نعدم شخصا يستجمع بقية الصفات ، نصبنا من وجدناه عالما كافيا ورعا ، وكان إماما منفذ الأحكام على الخاص والعام ، فإن النسب ثبت اشتراطه ; تشريفا لشجرة رسول الله - صلى الله عليه [ وسلم ] - ; إذ لا يتوقف شيء من مقاصد الإمامة على الاعتزاء إلى نسب ، والانتماء إلى حسب .

ونحن [ ص: 309 ] نعلم قطعا أن الإمام زمام الأيام ، وشوف الأنام ، والغرض من نصبه انتظام أحكام المسلمين والإسلام ، ويستحيل أن يترك الخلق سدى لا رابط لهم ، ويخلوا فوضى لا ضابط لهم ، فيغتلم من الفتن بحرها المواج ، ويثور لها كل ناجم مهتاج .

ونحن في ذلك نرقب قرشيا ، والخلق يتهاوون في مهاوي المهالك ، ويلتطمون في الخطط والممالك .

فإذا عدم النسب لا يمنع نصب كاف ، ثم ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام القرشي .

439 - والذي يعترض في ذلك أنا إذا نصبنا قرشيا مستجمعا للخلال المرضية ، والخصال المرعية ، ولم نر إذ نصبناه أفضل منه ، ثم نشأ في الزمان من يفضله ، فلا نخلع المفضول لظهور الفاضل .

ولو نصبنا من ليس قرشيا ، إذ لم نجد منتسبا إلى قريش ، ثم نشأ في الزمان قرشي على الشرائط المطلوبة ، فإن عسر خلع من ( 164 ) ليس نسيبا أقررناه ، وإن لم يتعذر خلعه ، فالوجه عندي تسليم الأمر إلى القرشي ، فإن هذا المنصب في حكم المستحق [ ص: 310 ] للمعتزين إلى شجرة النبوة ، والذي قدمنا نصبه في منزلة المستناب عمن يجمع إلى فضائل الأسباب شرف الانتساب ، فإذا تمكنا من رد الأمر إلى النصاب ، ابتدرناه بلا ارتياب .

وهذا كالقاضي ينوب بالتصرف عمن غاب ، فإذا حضر مستحق الحق وآب ، اطرد تصرف المالك على استتباب ، وانحسم عنه كل باب .

فهذا ما حاولناه في فرض تعذر النسب .

440 - فأما القول في فقد رتبة الاجتهاد ، فقد مضى أن استجماع صفات المجتهدين شرط الإمامة ، فلو لم نجد من يتصدى للإمامة في الدين ، ولكن صادفنا شهما ذا نجدة وكفاية ، واستقلال بعظائم الأمور ، على ما تقدم وصف الكفاية ، فيتعين نصبه في أمور الدين والدنيا ، وتنفذ أحكامه كما تنفذ أحكام الإمام الموصوف بخلال الكمال ، المرعي في منصب الإمامة .

وأئمة الدين وراء إرشاده وتسديده وتبين ما يشكل في الواقعة من أحكام الشرع .

والعلم وإن كان شرطه في منصب الإمامة معقولا ، ولكن إذا لم نجد عالما فجمع الناس على كاف يستفتي فيما [ ص: 311 ] يسنح ويعن له من المشكلات أولى من تركهم سدى ، متهاوين على الورطات ، متعرضين للتغالب والتواثب ، وضروب الآفات .

441 - فإن لم نجد كافيا ورعا متقيا ، ووجدنا ذا كفاية يميل إلى المجون ، وفنون الفسق ، فإن كان في انهماكه ، [ وانتهاكه ] الحرمات ، واجترائه على المنكرات بحيث لا يؤمن غائلته وعلانيته ، فلا سبيل إلى نصبه ، فإنه لو ( 165 ) استظهر بالعتاد ، وتقوى بالاستعداد ، لزاد ضيره على خيره ، ولصارت الأهب والعدد العتيدة للدفاع عن بيضة الإسلام ذرائع للفساد ، ووصائل إلى الحيد من مسالك الرشاد ، وهذا نقيض الغرض المقصود بنصب الأئمة ولو .

442 - فرض إلمام مهم يتعين مبادرته في حكم الدين ، قبل أن يطأ الكفار طرفا من بلاد الإسلام ، ولم نجد بدا من جر عسكر ، وصادفنا فاسقا نقلده الإمارة ، وعسر انجرار العسكر دون مرموق مطاع ، ولم نتمكن من تقي دين ، وإن بذلنا كنه المستطاع ، فقد نضطر إذا استفزتنا داهية تتعين المسارعة [ إلى [ ص: 312 ] دفعها إلى ] تقليد الفاسق جر العسكر .

443 - ولو فرض فاسق بشرب الخمر أو غيره من الموبقات ، وكنا نراه حريصا ، مع ما يخامره من الزلات ، وضروب المخالفات ، على الذب عن حوزة الإسلام ، مشمرا في الدين ، لانتصاب أسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام ، وكان ذا كفاية ، ولم نجد غيره ، فالظاهر عندي نصبه مع القيام بتقويم أوده على أقصى الإمكان .

فإن تعطيل الممالك عن [ راع ] يرعاها ، ووال يتولاها ، عظيم الأثر والموقع في انحلال الأمور ، وتعطيل الثغور ، فإن كنا نتوسم ممن ننصبه الانتداب والانتصاب للإمرة لما فيه من الكفاية والشهامة ، وكان مستقلا بنفض الممالك والمسالك عن ذوي العرامة ، فنصبه أقرب إلى استصلاح الخلق من تركهم مهملين ، ولا يعدل ما نتوقعه من الشر من فساده ، وما ضري به من شرته ما يعن من خبال الخلق ، إذا عدموا بطاشا يسوسهم ، ويمنع الثوار الناجمين منهم : فإذا نصب من وصفناه ( 166 ) في الصورة التي ذكرناها في حكم الضرورة .

[ ص: 313 ] 444 - ومن تأمل ما ذكرناه فهم منه أن الصفات المشروطة في الإمام على ما تقدم وصفها ، وإن كانت مرعية فالغرض الأظهر منها : الكفاية ، والاستقلال بالأمر .

فهذه الخصلة هي الأصل ولكنها لا تنفع ولا تنجح مع الانهماك في الفسق ، والانسلال عن ربقة التقوى ، وقد تصير مجلبة للفساد إذا اتصل بها استعداد .

445 - ثم العلم يلي الكفاية والتقوى ، فإنه العدة الكبرى ، والعروة الوثقى ، وبه يستقل الإمام بإمضاء أحكام الإسلام .

446 - فأما النسب [ وإن ] كان معتبرا عند الإمكان ، فليس له غناء معقول ، ولكن الإجماع المقدم ذكره هو المعتمد المستند في اعتباره .

والآن تتهذب أغراض الباب [ بمسائل ] نفرضها مستعينين بالله تعالى .

447 - فإن قيل : ما قولكم في قرشي ليس بذي دراية ، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالم كاف تقي ، فمن أولى بالأمر منهما ؟

[ ص: 314 ] قلنا : لا نقدم إلا الكافي التقي العالم ، ومن لا كفاية فيه ، فلا احتفال به ، ولا اعتداد بمكانه أصلا .

448 - فإن قيل : إذا اجتمع في عصر ودهر قرشي عالم ، ليس بذي كفاية واستقلال ، وكاف شهم مستقل بالأمر ، فمن نقدم منهما ؟

قلنا : إن لم يكن القرشي ذا خرق وحمق ، وكان لا يؤتى عن عته وخبل ، وكان بحيث لو نبه لمراشد الأمور لفهمها وأحاط بها ، وعلمها ، ثم انتهض لها - فهو أولى بالإمامة .

وسبيله إذا وليها ألا يقدم على خطب انفرادا منه برأيه واستبدادا ، ويستضيء برأي الحكماء والعقلاء ، ثم إذا عزم توكل .

وإنما يتأتى ما ذكرناه ممن معه حظوة صالحة من الفطنة ، وإدراك ( 167 ) وجه الصواب ، ومثل هذا حري بأن يتخرج إذا تدرب وتهذب ، وقارع كر الزمان ، [ وفره ] ، وذاق حلوه ومره .

وإن كان فدم القريحة ، مستميت الخاطر ، لا يطلع على وجه الرأي ، فإن أمضى أمرا وأبرم حكما ، كان مقلدا ، وقد ظهرت [ ص: 315 ] بلادته وخرقه ، واستمرت [ جساوته ] وحمقه فمثله لا يحسب في الحساب ، ولا يربط به سبب من الأسباب والكافي الورع أولى بالأمر منه .

449 - فالاستقلال بالنجدة والشهامة من غير اجتهاد ، أولى بالاعتبار والاختيار من العلم من غير نجدة وكفاية ، وكأن المقصود الأوضح الكفاية ، وما عداها في حكم الاستكمال والتتمة لها .

450 - وإذا عدمنا كافيا ، فقد فقدنا من يؤثر نصبه واليا ويتحقق عند ذلك شغور الزمان عن الولاة على ما سيأتي ذلك إن شاء الله - عز وجل - .

التالي السابق


الخدمات العلمية