الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ حكم تخلي الإمام عن منصبه ]

505 - فإن قيل : هل يرخص الشارع للمستقل بالمنصب الذي وصفتموه النزول عنه ، والتخلي لعبادة الله ، وإيثار الامتياز [ ص: 355 ] والانحجاز عن مظان الغرر ، ومواقع الخطر ، وتفويض أمر العباد إلى خالقهم ورازقهم ؟

قلنا : لا يحل للقائم بالأمر الانسلال والانخزال عما تصدى له من كفاية المسلمين عظائم الأشغال ، إذا علم أنه لا يخلفه من يسد في أمر الدين والدنيا مسده ، ويرد بوادر الظلمة رده .

وتبين أن من يتشوف إلى ( 188 ) الاستقلال بالأشغال ، لا يبوء بالأعباء والأثقال ، ولا يرجع إلى حشمة وأبهة رادعة ، ورأي مطاع ، واستبداد بمتابعة أشياع ، ومشايعة أتباع ، وتوفر من همم الخلق ودواع في الإذعان والأتباع ، وإصفاق وإطباق من طبقات الخلق في الآفاق .

على الثقة بأقواله ، والركون إلى متصرفات أحواله ، واعتقاد مصمم من كافة الورى ، من يرى ومن لا يرى ، أنه إذا تعطف [ وترأف ] فكأمك [ ص: 356 ] شفيق ، وناصح رفيق ، وإن استجار ملهوف بذراه فركن وثيق ، وإن تغشت سخطته جبابرة الأرض لم يبق منهم في الحناجر ريق .

يعم أهل الخلاف والوفاق نصحه وإشفاقه ، ويطبق طبقات الخلائق مباره وإرفاقه ، ويستنيم إلى مأمن إنصافه كل ختار غادر ، ويستكين لهيبته كل جبار قاسر ، قد استطال على الرقاب الغلظ فرسانه ، واستمال حبات القلوب إحسانه .

506 - فإلى متى أطيل طول الكلام ، وقد تناهى الوضوح والكنى والحال يصرح ويبوح ، ومن تستجمع له هذه الخلال ، إلا فرد الدهر ومرموق العصر ؟ ومن يتصدى في متسع الأرض - إذا تأمل الباحث عنها الطول منها والعرض - لأدنى مقام من هذه المقامات ؟

ومن يرقى إلى أقرب درجة من هذه الدرجات ؟ هيهات هيهات ، لم يأت والله [ بمثله ] مكر الأدوار ، ولم يحتو على شكله محدب الفلك الدوار ، ولم يسمح بنظيره منقلب [ الأيام ] والأقدار ، ومضطرب الدهور والأعصار ومن قدر له [ ص: 357 ] في العالمين ضريبا ، استطالت عليه ألسنة أرباب الألباب تفنيدا وتكذيبا .

507 - ولو فرض فارض مستظهرا بالعدد بطاشا بأنصار ، من غير ( 189 ) رجوع إلى اعتزام وافتكار ، ونظر في مهمات الرعايا واعتبار ، لصارت الخطة فراشا لكل [ عار ] ، وفراشا لكل نار .

ثم من ينتهض لدين الله بالذب والانتصار ؟ ومن يتعطف عاطفته على علماء الأقطار ؟ ومن يكلأ بالعين الساهرة شعار الدين في أقاصي الديار والأمصار ؟ ومن يحسم غوائل البدع بالرأي الثاقب من غير إثارة فتنة وإظهار ضرار ؟ .

ومن يداري بلطف الخلق ما يكل عنه غرار الحسام البتار ؟ ومن يهتم بالمساجد والمشاهد والمجالس والمدارس في الأمصار ، ومن الذي يحن إلى سدته زمر الأولياء والأخيار ، حنين الطير إلى الأوكار ؟ ومن الذي يستوظف معظم ساعات الليل والنهار في الإصاخة إلى كلام الملهوفين من غير تبرم واستكبار ؟ .

فإذا لم يقم أحد مقامه في أدنى هذه الآثار تعين عليه قطعا على الله [ ص: 358 ] العظيم شأنه الثبوت والاصطبار ، والانتداب لله عزت قدرته في هذه المآرب والأوطار .

508 – وأنا الآن أذكر فصولا مجموعة ، أنتحي فيها منشأ الحق وينبوعه ، وأسترسل في العبارات القريبة المطبوعة ، فإن نهايات المعاني ، لا تحويها الألفاظ المصنوعة ، والكلم المرصعة المسجوعة .

فأقول معولا على التأييد من الله والتوفيق : ليس يخفى على ذوي البصائر والتحقيق ، أن القيام بالذب عن الإسلام ، وحفظ الحوزة مفروض ، وذوو التمكن والاقتدار مخاطبون به ، فإن استقل به كفاة ، سقط الفرض عن الباقين ، وإن تقاعدوا وتجادلوا وتقاعسوا وتواكلوا ، عم كافة المقتدرين الحرج على تفاوت المناصب والدرج ( 190 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية