الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 385 ] الباب الثالث

في شغور الدهر عن وال بنفسه أو متول بغيره

فأقول :

551 - قد تقرر الفراغ عن القول في استيلاء مستجمع لشرائط الإمامة ، ثم في استعلاء ذي نجدة وشهامة ، وقد حان الآن أن أفرض خلو الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة ، خلوه عمن يستحق الإمامة ، والتصوير في هذا عسر ; فإنه يبعد عرو الدهر عن عارف بمسالك السياسة ، ونحن لا نشترط انتهاء الكافي إلى الغاية القصوى ، بل كفى أن يكون ذا حصاة وأناة ، ودراية وهداية ، واستقلال بعظائم الخطوب ، وإن دهته معضلة استضاء فيها برأي ذوي الأحلام ، ثم انتهض مبادرا وجه الصواب بعد إبرام الاعتزام ، ولا يكاد تخلو الأوقات عن متصف بهذه الصفات .

552 - ولكن قد يسهل [ تقدير ] ما نبغيه ، بأن يفرض [ ص: 386 ] ذو الكفاية [ والدراية ] مضطهدا مهضوما ، منكوبا بعسر الزمان مصدوما ، محلأ عن ورد النيل محروما .

وقد ذكرنا أن الإمامة لا تثبت دون اعتضاد بعدة واستعداد بشوكة ونجدة ، فكذلك الكفاية بمجردها من غير اقتدار واستمكان لا أثر لها في إقامة أحكام الإسلام ; فإذا شغر الزمان عن كاف مستقل بقوة ومنة ، فكيف تجري قضايا الولايات ، وقد بلغ تعذرها منتهى الغايات . فنقول :

553 - أما ما يسوغ استقلال الناس [ فيه ] بأنفسهم ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ، ومراجعة مرموق العصر ، كعقد الجمع ، وجر العساكر إلى الجهاد ، واستيفاء القصاص في النفس والطرف ، فيتولاه الناس عند خلو الدهر .

ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد ، [ فهو ] من أهم أبواب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .

[ ص: 387 ] 554 - وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادا إذا كان في الزمان [ وزر ] قوام على أهل الإسلام ، فإذا خلا الزمان عن السلطان ، وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان .

ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل [ الاستحثاث ] على ما هو الأقرب إلى الصلاح ، والأدنى إلى النجاح ، فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجع ، وأدفع للتنافس ، وأجمع لشتات الرأي في تمليك الرعايا أمور الدماء ، وشهر الأسلحة ، وجوه من الخبل لا [ ينكرها ] ذوو العقل .

وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن ، عم الفساد البلاد والعباد .

وإذا أمروا بالتقاعد في قيام السلطان ، كفاهم ذو الأمر المهمات ، وأتاها على أقرب الجهات .

555 - وقد قال بعض العلماء : لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة ، وسكان كل قرية ، أن يقدموا من ذوي [ ص: 387 ] الأحلام والنهى ، وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره ، وينتهون عن مناهيه ومزاجره ; فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ، ترددوا عند إلمام المهمات ، وتبلدوا عند إظلال الواقعات .

556 - ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات ، وأوغلوا في مواطن المخافات ، تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه إذ لو لم يفعلوا ذلك لهووا في ورطات المخافات ، ولم يستمروا في شيء من الحالات ( 206 ) .

557 - ومما يجب الاعتناء به أمور الولايات التي كانت منوطة بالولاة كتزويج الأيامى ، والقيام بأموال الأيتام ، فأقول :

ذهب بعض أئمة الفقه إلى أن [ مما ] يتعلق بالولاية تزويج الأيامى ، فمذهب الشافعي - رضي الله عنه - وطوائف من العلماء أن الحرة البالغة العاقلة لا تزوج نفسها ، وإن كان لها ولي زوجها ، وإلا فالسلطان ولي من لا ولي له .

فإذا لم يكن لها ولي حاضر ، وشغر الزمان على السلطان ، فنعلم قطعا أن حسم باب النكاح محال [ ص: 389 ] في الشريعة ، ومن أبدى في ذلك تشككا ، فليس على بصيرة بوضع الشرع ، والمصير إلى سد باب المناكح يضاهي الذهاب إلى تحريم الاكتساب ، كما سيأتي القول في ذلك في الركن الأخير في الكتاب إن شاء الله عز وجل .

وهذا مقطوع به لا مراء فيه ، فليقع النظر وراء ذلك في تفصيل التزويج ، فأقول :

558 - إن كان في الزمان عالم يتعين الرجوع إليه في تفاصيل النقض والإبرام ومآخذ الأحكام ، فهو الذي يتولى المناكح التي كان يتولاها السلطان إذ كان .

وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في أن من حكم مجتهدا في زمان قيام الإمام بأحكام أهل الإسلام فهل ينفذ ما حكم به المحكم ؟ فأحد قوليه ، وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ، أنه ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمام .

وهذا قول متجه في القياس ، لست أرى الإطالة بذكر توجيهه .

[ ص: 390 ] وغرضي منه [ أنه ] إذا انقدح المصير إلى تنفيذ أمر محكم من المفتين في استمرار الإمامة ، واطراد الولاية والزعامة ، مع تردد وتحر واجتهاد وتأخ .

فإذا خلا الزمان وتحقق من موجب الشرع على القطع والبت استحالة تعطيل المناكح ، فالذي كان نفوذه ( 207 ) من أمر المحكم مجتهدا فيه في قيام الإمام يصير مقطوعا به في شغور الأيام ، وهذا إذا صادفنا عالما يتعين الرجوع إلى علمه ، ويجب اتباع حكمه .

559 - فإن عري الزمان عن العلماء عروه عن الأئمة ذوي الأمر ، فالقول في ذلك يقع في الركن الثالث من الكتاب ، وهو الغرض الأعظم ، وسنوضح مقصدنا فيه على مراتب ودرجات ، ونأتي بالعجائب والآيات ، ونبدي من سر الشريعة ما لم يجر في مجاري الخطرات ، إن شاء الله تعالى .

560 - ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال المفوضة إلى الأئمة ، [ ص: 391 ] فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية ، فالأمور موكولة إلى العلماء ، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم ، فإن فعلوا ذلك ، فقد هدوا إلى سواء السبيل ، وصار علماء البلاد ولاة العباد .

561 - فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم .

وإن كثر العلماء في الناحية ، فالمتبع أعلمهم ، وإن فرض استواؤهم ، ففرضهم نادر لا يكاد يقع ، فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم .

فإن تنازعوا وتمانعوا ، وأفضى الأمر إلى شجار وخصام ، فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع ، فمن خرجت له القرعة ، قدم .

562 - والقول المقنع في هذه القواعد أن الأئمة [ المستجمعين ] [ ص: 392 ] لخصال المنصب الأعلى ليس إليهم إلا إنهاء أوامر الله ، وإيصالها طوعا أو كرها ( 208 ) إلى مقارها ، ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربط الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك .

فإن عسر ، ولم يتيسر ، تعلق إنهاء أحكام الله [ تعالى ] إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار .

563 - ومن الأسرار في ذلك أنه إذا وجد في الزمان كاف ذو شهامة ، ولم يكن من العلم على مرتبة الاستقلال ، وقد استظهر بالعدد والأنصار ، وعاضدته مواتاة الأقدار ، فهو الوالي وإليه أمور الأموال والأجناد والولايات ، لكن يتحتم عليه ألا يبت أمرا دون مراجعة العلماء .

564 - فإن قيل : هلا جزمت القول بأن عالم الزمان هو الوالي [ و ] حق على ذي النجدة [ والباس ] اتباعه ، والإذعان لحكمه ، والإقرار لمنصب علمه .

قلنا : إن كان العالم ذا كفاية وهداية إلى عظائم الأمور ، فحق [ ص: 393 ] على ذي الكفاية العري عن رتبة الاجتهاد أن يتبعه إن تمكن منه .

وإن لم يكن العالم ذا دراية واستقلال بعظائم الأشغال ، فذو الكفاية الوالي قطعا ، وعليه المراجعة والاستعلام في مواقع الاستبهام ، ومواضع الاستعجام .

565 - ثم إذا كانت الولاية منوطة بذي الكفاية والهداية ، فالأموال مربوطة بكلاءته ، وجمعه وتفريقه ورعايته ; فإن عماد الدولة الرجال ، وقوامهم الأموال . فهذا منتهى القول في ذلك .

566 - وقد انتهى القول إلى الركن الثالث ، وهو الأمر الأعظم الذي يطبق طبق الأرض فائدته ، وتستفيض على طبقات الخلق عائدته . والله ولي التوفيق بمنه وفضله .

التالي السابق


الخدمات العلمية