الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 417 ] المرتبة الثانية ( الباب الثاني ) [ فيما إذا خلا الزمان عن المجتهدين وبقي نقلة مذاهب الأئمة ] 611 - فأما المرتبة الثانية فهي فيه إذا خلا الزمان عن المفتين البالغين مبلغ المجتهدين ، ولكن لم يعر الدهر عن نقلة المذاهب الصحيحة عن الأئمة الماضين ، وتكاد هذه الصورة توافق هذا الزمان وأهله . والوجه تقديم ما يتعلق بالناقل وصفته ثم الخوض في ذكر ما يتعلق به المستفتون فأقول :

612 - لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ ، ولا يرجع إلى كيس وفطنة وفقه ( 220 ) طبع ; فإن [ تصوير ] مسائلها أولا ، وإيراد صورها على وجوهها لا يقوم بها إلا فقيه .

ثم نقل المذاهب بعد استتمام التصوير لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبير ، فلا ينزل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار والأقاصيص والآثار .

وإن فرض النقل في الجليات [ من واثق بحفظه موثوق به في أمانته ، لم يمكن فرض نقل الخفيات ] من غير استقلال بالدراية .

613 - فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل ، فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين .

[ ص: 418 ] فإذا وقعت واقعة فلا يخلو إما أن يصادف النقلة فيها جوابا من الأئمة الماضين ، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جوابا .

فإن وجدوا فيها مذهب الأئمة منصوصا عليه ، نقلوه واتبعه المستفتون . ولا بد من إزالة استبهام في هذا المقام .

614 - فإذا نقل الناقلون مذهب الشافعي - رحمه الله - ونقلوا مذاهب عن المجتهدين المتأخرين عن عصره ، [ فالمستفتي ] يتبع أي المذاهب ؟ مع اعتقاده أن من بعد الشافعي - رضي الله عنه - لا يوازيه ، ولا يدانيه ؟ .

615 - هذا ينبني على ما أجريته في أثناء الكلام في المرتبة الأولى من هذا الركن ، وهو أن من عاصر مفتيا ، وصادف مذهبه مخالفا لمذهب الإمام الذي اعتقده أفضل الأئمة الباحثين والممهدين لأبواب الأحكام قبل وقوع الوقائع ، فإنه يتبع مذهب المفتي أو مذهب الإمام المقدم المتقادم ؟ وقد تقدم فيه تردد ، ووضح أن الاختيار اتباع مفتي الزمان ، من حيث إنه بتأخره سبر مذهب من كان [ ص: 419 ] قبله ، ونظره في التفاصيل [ أسد ] من نظر المقلد على الجملة .

616 - فإذا تجدد العهد بهذا ، فقد يظن الظان على موجب ذلك ( 221 ) أن اتباع مذاهب الأئمة المتأخرين عن الشافعي أولى وإن فاقهم الشافعي - رحمه الله - فضلا ، فإنهم باستئخارهم اختصوا بمزيد بحث وسبر .

617 - والذي أراه في ذلك القطع باتباع الإمام المقدم ، والإضراب عن مذاهب المتأخرين عنه قدرا وعصرا .

وإن كنت أرى تقليد مفتي الزمان لو صودف ; لأن الذي يوجد لا يعسر تقليده ، وتطويقه أحكام الوقائع .

فأما تكليف المستفتين الإحاطة بمراتب العلماء المتأخرين عن الشافعي - مثلا - على كثرتهم ، وتفاوت مناصبهم ومراتبهم ، فعسر لا يستقل به إلا من وفرت حظوظه من علوم .

618 - وإنما رأيت هذا مقطوعا به من حيث لم ير أحد من العلماء المقلدين المستفتين على مذاهب من دون الإمام المقدم ، ولكن من كان من العلماء مفتيا ، جزم فتواه ، ولم يذكر مذهب [ ص: 420 ] من سواه ، ومن قدر نفسه ناقلا ، أحال المراجعين على مذاهب الحبر المتقدم .

وهذا لائح لا يجحده محصل .

فقد تقرر أن الواقعة إذا نقل فيها من هو من أهل النقل مذهب إمام مقدم [ قد ] ظهر للمستفتي بما كلفه من النظر أنه أفضل الأئمة الباحثين ، فالمستفتي يتبع ما صح النقل فيه .

619 - وإن وقعت واقعة لم يصادف النقلة فيها مذهبا منصوصا عليه للإمام المقدم ، وقد عري الزمان عن المجتهدين ، فهذا مقام يتعين صرف الاهتمام إلى الوقوف على المغزى منه والمرام ، وهو سر الكلام في هذه المرتبة . فأقول :

620 - قد تقدم أن نقل الفقه يستدعي كيسا وفطنة وحظوة بالغة في الفقه .

ثم الفقيه الناقل يفرض على وجهين :

[ ص: 421 ] أحدهما - أن يكون في الفقه على مبلغ يتأتى منه بسببه نقل المذاهب في الجليات ( 222 ) والخفايا تصويرا ، وتحريرا ، وتقريرا ، ولا يكون في فن الفقه بحيث يستد له قياس غير المنصوص عليه على المنصوص . فإن كان كذلك ، اعتمد فيما نقل .

621 - وإن وقعت واقعات لا نصوص لصاحب المذهب في أعيانها ، فما تعرى عن النص ينقسم قسمين :

أحدهما - أن يكون في معنى المنصوص عليه ، ولا يحتاج في درك ذلك إلى فضل نظر ، وسبر عبر ، وإنعام فكر ، فلا يتصور أن يخلو عن الإحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقل بنقل الفقه ، فليلحق في هذا القسم غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه .

622 - وبيان ذلك بالمثال من ألفاظ الشارع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعتق شركا له في عبد قوم عليه نصيب صاحبه " فالمنصوص عليه العبد ، ولكنا نعلم قطعا أن الأمة المشتركة في معنى العبد الذي اتفق النص عليه ، ولا حاجة في ذلك إلى الفحص والتنقير عن مباحث الأقيسة .

[ ص: 422 ] فإذا جرى لصاحب المذهب مثل ذلك ، لم يشك المستقل بنقل مذهبه في هذا الضرب في إلحاق ما في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه .

623 - وإذا احتوى الفقيه على مذهب إمام مقدم حفظا ودراية ، واستبان أن غير المذكور ملتحق بالمذكور فيما لا يحتاج فيه إلى استثارة معان ، واستنباط علل ، فلا يكاد يشذ عن محفوظ هذا الناقل حكم واقعة في مطرد العادات .

والسبب فيه أن مذاهب الأئمة لا تخلو في كل كتاب ، بل في كل باب عن جوامع وضوابط ، وتقاسيم ، تحوي طرائق الكلام في الممكنات ، ما وقع منها وما لم يقع ، ولو أوضحت ما أحاوله بضرب الأمثلة لاحتجت إلى ذكر ( 223 ) صدر صالح من فن الفقه ، من غير مسيس الحاجة في هذا المجموع إليه ، فإن الناس في هذا الذي أفضى الكلام إليه طائفتان : فقهاء ناقلون معتمدون فيما ينقلون ، ومستفتون راجعون إلى المستقلين بنقل مذاهب الماضين .

[ ص: 423 ] 624 - فأما الفقهاء فلا يخفى عليهم مضمون ما ذكرته قطعا ، وأما المستفتون ، فلا يحيطون بسر الغرض فيه ، وإن بسط لهم المقال ، وأكثرت لهم الأمثال فتصيبهم من هذا الفصل مراجعة الفقهاء ، والنزول على ما ينهون إليهم من الأحكام .

وقد فهم عنا من ناجيناه من الفقهاء ما أردناه ، واتضح المقصد فيما أوردناه .

625 - ثم لسنا نضمن مع ما قربناه اشتمال الحفظ على قضايا جميع ما يتوقع وقوعه من الوقائع . فإن فرضت واقعة لا يحويها نصوص ، ولا تضبطها حدود روابط ، وجوامع ضوابط . ولم تكن في معنى ما انطوت النصوص عليه . فالقول فيها يلتحق بالكلام [ فيما ] إذا خلا الزمان عن نقلة المذاهب ، وسيأتي ذلك في المرتبة الثالثة على الترتيب ، وهي المقصودة من الركن الثالث ، وما عداها كالمقدمات والتسبيب .

[ ص: 424 ] 626 - وما ذكرناه الآن فيما إذا لم يكن ناقل المذاهب بحيث يقوى على مسالك الأقيسة ، ويستمكن من الاستداد في استنباط المعاني .

627 - فأما من كان فقيه النفس ، متوقد القريحة ، بصيرا بأساليب الظنون ، خبيرا بطرق المعاني في هذه الفنون ، ولكنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين ، لقصوره عن المبلغ المقصود في الآداب أو لعدم تبحره في الفن المترجم بأصول الفقه - على أنه لا يخلو عن قواعد أصول الفقه الفقيه المرموق والفطن في أدراج الفقه - وإن كان لا يستقل بنظم أبوابه ، وتهذيب أسبابه ، فمثل هذا الفقيه إذا أحاط بمذهب ( 224 ) إمام من الأئمة الماضين ، وذلك الإمام هو الذي ظهر في ظن المستفتين أنه أفضل المقدمين الباحثين ، [ فما ] يجده منصوصا من مذهبه ينهيه ويؤديه ، ويلحق بالمنصوص عليه ما في معناه ، كما سبق الكلام فيه .

[ ص: 425 ] 628 - وإذا عنت واقعة لا بد من إعمال القياس فيها [ فقد ] خبر الفقيه المستقل بمذهب إمامه مسالك أقيسته وطرق تصرفاته في إلحاقاته غير المنصوص عليه للشارع بالمنصوص عليه ، فلا يعسر عليه أن يبين في كل واقعة قياس مذهب إمامه .

629 - ثم الذي أقطع به أنه يتعين على المستفتي اتباع اجتهاد مثل هذا الفقيه في إلحاقه - بطرق القياس التي ألفها وعرفها - [ ما ] لا نص فيه لصاحب المذهب بقواعد المذهب .

والدليل عليه أن المجتهد البالغ مبلغ أئمة الدين صفته أنه أنس بأصول الشريعة ، واحتوى على الفنون التي لا بد منها في الإحاطة بأصول المسألة ، والاستمكان من التصرف فيها .

[ فإذا ] استجمعها العالم كان على ظن غالب في إصابة ما كلف في مسالك الاجتهاد .

630 - فالذي أحاط بقواعد مذهب الشافعي مثلا ، وتدرب في مقاييسه ، وتهذب في أنحاء نظره وسبيل تصرفاته ينزل في [ ص: 426 ] الإلحاق بمنصوصات الشافعي منزلة المجتهد الذي يتمكن بطرق الظنون إلحاق غير المنصوص عليه في الشرع بما هو منصوص عليه .

631 - ولعل الفقيه المستقل بمذهب إمام أقدر على الإلحاق بأصول المذهب الذي حواه - من المجتهد في محاولته الإلحاق بأصول الشريعة ; فإن الإمام المقلد المقدم بذل كنه مجهوده في الضبط ، ووضع الكتاب بتبويب الأبواب ( 225 ) وتمهيد مسالك القياس والأسباب ، والمجتهد الذي يبغي رد الأمر إلى أصل الشرع لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المهذب [ المفرع ] المرتب .

632 - والذي يحقق الغرض في ذلك إذا عدمنا مجتهدا ، ووجدنا فقيها دربا قياسا ، وحصلنا على ظن غالب في التحاق ما لا نص فيه في المذهب الذي ينتحله بالمنصوصات ، فإحالة المستفتين على ذلك أولى من تعرية وقائع عن التكاليف ، وإحالة المسترشدين [ ص: 427 ] على عمايات وأمور كلية ، كما سيأتي شرحنا عليه في المرتبة التالية - إن شاء الله عز اسمه - .

وهذا فتح عظيم في الشرع لائق بحاجات أهل الزمان ، وقد وفق الله شرحه .

633 - وتنخل من محصل الكلام أن الفقيه الذي وصفناه يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد الراقي إلى الرتبة العليا في الخلال المرعية ناقلا ، وملحقا وقايسا . ثم يقلد المستفتي ذلك الإمام المقدم المنقلب إلى رحمة الله [ تعالى ] ورضوانه ، لا الفقيه الناقل القياس .

634 - فإن فرض فارض من مثل الفقيه الذي ذكرناه ترددا وتبلدا في بعض الوقائع على ندور ، فقد يتصور [ توقف ] المجتهد في بعض الوقائع .

[ ص: 428 ] 635 - وبعون الله وتوفيقه أذكر في آخر المرتبة الثالثة تفصيل القول في آحاد الوقائع ، إذا توقف فيها المفتون ، أو تردد فيها الناقلون ، ونوضح ما على المستفتين فيها إن شاء الله عز وجل .

فهذا منتهى المطلوب في هذه المرتبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية