الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 436 ] [ كتاب الطهارة ]

[ فصل ]

فنقول : في حكم المياه :

653 - قد امتن الله على عباده بإنزال الماء الطهور ، فقال عز من قائل : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) .

والطهور في لسان الشرع هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره .

ويطرأ على الماء الطهور ثلاثة أشياء :

أحدها - النجاسة .

والثاني - الأشياء الطاهرة .

والثالث الاستعمال .

654 - فأما النجاسة إذا وقعت في الماء فمذهب مالك - رحمه الله - أن الماء طهور ما لم يتغير ، واستمسك في إثبات مذهبه بما روي [ ص: 437 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه " .

655 - ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ما لم يتغير ، وهو قريب من خمس قرب ، فإن لم يبلغ هذا المبلغ ، فوقعت فيه نجاسة ، تنجس ، تغير أو لم يتغير .

656 - واضطربت الرواية عن أبي حنيفة - رحمه الله - ولست لاستقصاء تلك الروايات ; فإن غرضي وراء هذه المذاهب .

657 - فإن فرض عصر خال عن موثوق في نقل مذاهب الأئمة ، والتبس على الناس هذه التفاصيل ، التي رمزت إليها ، وقد تحققوا أن النجاسة على الجملة مجتنبة ، ولم يخف على ذوي العقول أن النجاسات لا تؤثر في المياه العظيمة ، كالبحار والأودية [ ص: 438 ] الغزيرة كدجلة والفرات وغيرهما ، ولا بد من استعمال المياه في [ الطهارات ] والأطعمة وبه قوام ذوي ( 230 ) الأرواح .

658 - والذي تقتضيه هذه الحالة أن من استيقن نجاسة اجتنبها ، ومن استيقن [ خلو ماء ] عن النجاسة ، لم يسترب في جواز استعماله ، وإن شك ، فلم يدر أخذ بالطهارة .

فإن تكليف ماء [ مستيقن ] الطهارة ، بحيث لا يتطرق إليه إمكان النجاسة عسر الكون ، معوز الوجود ، وفي جهات الإمكان متسع ، ولو كلف الخلق طلب يقين الطهارة في الماء ، لضاقت معايشهم ، وانقطعوا عن مضطربهم ومكاسبهم ، ثم لم يصلوا آخرا إلى ما يبغون .

659 - فهذه قواعد كلية تخامر العقول من أصول الشريعة لا تكاد تخفى ، وإن درست تفاصيل المذاهب .

660 - وإن استيقن المرء وقوع نجاسة فيما يقدره كثيرا ، وقد تناسى الناس القلتين ، ومذهب الصائر إلى اعتبارهما ، فالذي تقتضيه هذه الحالة أن المغترف من الماء إن استيقن أن النجاسة قد [ ص: 439 ] انتشرت إلى هذا المغترف وفي استعماله استعمال شيء من النجاسة فلا يستعمله .

وإن تحقق أن النجاسة لم تنته إلى هذا المغترف ، استعمله ، وإن شك أخذ بالطهارة ; فإن مما تقرر في قاعدة الشريعة استصحاب الحكم بيقين طهارة الأشياء إلى أن يطرأ عليها يقين النجاسة .

661 - وهذا الذي ذكرته قريب من مذهب أبي حنيفة الآن .

662 - ولو تردد الإنسان في نجاسة شيء وطهارته ، ولم يجد من يخبره بنجاسته أو طهارته ، مفتيا أو ناقلا ، فمقتضى هذه الحالة الأخذ بالطهارة ، فإنه قد تقرر في قاعدة الشريعة أن من شك في طهارة ثوب أو نجاسته فله الأخذ بطهارته .

663 - فإذا عسر درك الطهارة من المذاهب ، وخلا الزمان عن مستقل بمذهب علماء الشريعة ، فالوجه رد الأمر ما ظهر في قاعدة الشرع أنه الأغلب .

664 - وقد قدمنا : أن الأصل ( 231 ) طهارة الأشياء ، وإن المحكوم بنجاسته معدود محدود . ولو وجدنا في توافر العلماء عينا ، [ ص: 440 ] وجوزنا أنها دم ، ولم يبعد أن يكون صبيغا مضاهيا للدم في لونه وقوامه ، واستوى الجائزان فيه عندنا ، فيجوز الأخذ بطهارته بناء على القاعدة التي ذكرناها .

665 - فالتباس المذاهب ، وتعذر ذكر أقوال العلماء في العصر ينزل منزلة التباس الأحوال في الطهارة والنجاسة مع وجود العلماء .

666 - فإن قيل : هذا الذي ذكرته اختراع مذهب لم يصر إليه المتقدمون ، والذين أوضحوا [ مذاهبهم ] لم يخصصوها ببعض الأعصار ، بل أرسلوها منبسطة على الأزمان كلها .

667 - قلنا : هذا الفن من الكلام يتقبله راكن إلى التقليد ، مضرب عن المباحث كلها ، أو متبحر في تيار بحار علوم الشريعة بالغ في كل [ غمرة ] إلى مقرها ، صال بحرها ، صابر على سبرها ، بصير بمآخذ الأقيسة في معضلاتها ، غواص [ ص: 441 ] على مغاصاتها ، وافر الحظ في بدائعها ، وينكرها الشادون المستطرقون الذين لم يتشوفوا بهممهم إلى درك الحقائق ، ولم يضطروا إلى المآزق والمضايق .

668 - ولا بد من تقرير الانفصال عن السؤال قبل الاندفاع في مجال المقال .

فنقول : لو عرضت الكتب التي صنعها القياسون في الفقه مع ما فيها من المسائل المرتبة ، والأبواب المبوبة ، والصور المفروضة قبل وقوعها ، وبدائع الأجوبة فيها ، والعبارات المخترعة من مستمسكاتهم فيها استدلالا ، وسؤالا وانفصالا ، كالجمع والفرق ، والنقض والمنع ، والقلب وفساد الوضع ، والقول بالموجب ، ونحوها ، لتعب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه [ وسلم ] - في فهمها إذ لم يكن عهد بها ، ومن فاجأه شيء [ ص: 442 ] لم يعهده ، احتاج إلى رد ( 232 ) الفكر إليه ، ليأنس به ، ثم يستمر على أمثاله .

ومعظم المسائل التي وضعوها لم يلفوها بأعيانها منصوصا عليها ، ولكنهم قدروها على مقاربة ومناسبة من أصول الشريعة .

669 - فتقدير [ إعواص ] المذاهب والتباس الآراء والمطالب إذا جر إشكالا في النجاسة والطهارة - واقعة مفروضة ، ورأيت فيها قياس الشك في النجاسة التي أنتجه التباس المذاهب ، على شك ينتجه إشكال في الأحوال مع بقاء المذاهب .

670 - فقصارى القول فيه اعتبار شك بشك ، وبناء الأمر على تغليب ما قضى الشرع بتغليبه وهو الطهارة .

671 - والذي يكشف الغطاء في ذلك أن من أنكر ما ذكرته قيل : له : لو قدر خلو الزمان عن العلماء بتفاصيل هذا الشأن ، وأشكل على صاحب الواقعة أن الماء الذي وقعت فيه النجاسة مما [ ص: 443 ] كان يعفو العلماء عنه ، أم لا ؟ ولا ماء غيره . فماذا تقول أيها المعترض المنكر ؟ أتقول : يجب اجتنابه ، فهذا إن قلته ، فهو مذهب مخالف مذاهب الأولين . ثم يعارضه جواز استعماله ، وإن لم يطلع على مذاهب المتقدمين .

فهما إذا مسلكان [ والتجويز ] أقرب مآخذ الشريعة في مواقع الشك في النجاسات كما سبق تقريره .

672 - وإن قال المعترض : لا حكم لله في هذا الماء في الزمان الخالي عن العلماء ، روجع في ذلك ، وقيل له عنيت أنه لا حرج على المرء فيه استعمل الماء أو أضرب ، فهذا على التحقيق تسويغ الاستعمال لمكان الإشكال .

673 - والذي ذكرناه أمثل ، فإن تبقية ربط الشرع على أقصى الإمكان ، نظرا إلى القواعد الكلية ، أصوب من حل رباط التكاليف لمكان استبهام التفاصيل .

ولا يخفى مدرك الحق فيما ذكرناه على الفطن . وأما الفدم [ ص: 444 ] البليد ، فلا احتفال به ، ومن أبى مسلكنا فهو ( 233 ) عنود جحود ، أو غبي بليد . والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولطفه .

674 - فإذا وضح ما ذكرناه ، فنعود إلى [ سير ] الكلام ، [ ونستتم ] غرضنا في النجاسة والطهارة في هذا الأسلوب من الكلام ، ونقول رب نجاسة مستيقنة [ يقضي ] الشرع بالعفو عنها ثم ذلك ينقسم إلى ما لا يتصور [ التحرز ] عنه أصلا ، وليس من الممكن الاستقلال باجتنابه ، وهو كالغبار الثائر من قوارع الطرق التي تطرقها البهائم والدواب والكلاب ، وعلى القطع نعلم نجاستها ، والناس في تردداتهم وتصرفاتهم يعرقون ، والرياح تثير الغبار ; فتنال الأبدان والثياب ، ثم لا يخلو عما ذكرناه البيوت والدور والأكنان . .

ونحن نعلم أن [ التحرز ] من هذا غير داخل في الاستطاعة ، ثم الأنهار ينتشر إليها الغبار المثار قطعا ، فكيف يفرض غسل هذا النوع ، والماء يتغشاه منه ما يتغشى غيره من الثياب والأبدان والبقاع فلا خفاء يكون ذلك محطوطا عن المكلفين أجمعين .

[ ص: 445 ] 675 - ومن ضروب النجاسات ما يدخل في الإمكان الاحتراز منها على عسر ، وإذا اتصلت بالبدن والثوب أمكن غسلها ، ولكن يلقى المكلفون فيه مشقة لو كلفوا الاجتناب والإزالة .

وهذا على الجملة معفو عنه عند العلماء ، وإنما اختلافهم في الأقدار والتفاصيل ، ومثال هذا القسم عند الشافعي - رحمه الله – دماء البراغيث والبثرات إذا قلت .

وللأئمة في تفصيل هذا الفن مذاهب مختلفة ، ليس نقلها من غرضنا الآن .

676 - ونحن نقول وراء ذلك : لا يخفى على أهل الزمان الذي لم تدرس فيه قواعد الشريعة ، وإنما التبست تفاصيلها أنا غير مكلفين بالتوقي مما لا يتأتى التوقي عنه ، ولا يخلو مثل هذا الزمان عن العلم بأن ما يتعذر ( 234 ) التصون عنه جدا ، وإن كان متصورا على العسر والمشقة معفو عنه ، ولكن قد يخفى المعفو عنه قدرا وجنسا ، ولا يكون في الزمان من يستقل بتحصيله وتفصيله .

677 - فالوجه عندي فيه أن يقال : إن كان التشاغل مما يضيق [ ص: 446 ] [ متنفس ] الرجل ومضطربه في تصرفاته وعباداته وأفعاله ، التي يجريها في عاداته ، ويجهده ويكده مع اعتدال حاله فليعلم أنه في وضع الشرع غير مؤاخذ به ، فإن مما استفاض وتواتر من شيم الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - التساهل في هذه المعاني ، حتى ظن طوائف من أئمة السلف أن معظم الأبوال والأرواث طاهرة ، لما صح عندهم من تساهل الماضين في هذه الأبواب .

678 - وإن لم يكن التصون عنها مما يجر مشقة بينة مذهلة عن مهمات الأشغال ، فيجب إزالتها .

679 - هذا مما يقضي به كلي الشريعة عند فرض دروس المذاهب في التفاصيل .

680 - فهذا مسلك للقول في أحكام النجاسات ، ولو أكثرت في التفاصيل ، لكنت هادما مبنى الكتاب ، فإن أصل ذلك التنبيه على موجب القواعد ، مع تعذر الوصول إلى التفصيل ، فلو فصلنا وفرعنا ، لكان نقل تفاصيل المذاهب ، المضبوطة أولى مما تقرر كونه عند دروسها .

[ ص: 447 ] فليفهم هذه المرامز مطالعها ، مستعينا بالله عزت قدرته .

681 - وقد ذكرنا في صدر الباب أن الماء تطرأ عليه النجاسات والأشياء الطاهرة ، والاستعمال . وقد نجز مقدار غرضنا في أحكام النجاسات .

682 - فأما طريان الأشياء الطاهرة على الماء ، فلا يتصور أن يخفى مع ظهور قواعد الشرع في الزمان أن ما يرد على الماء من الطاهرات ولا يغير صفة من صفاته ، ( 235 ) فلا أثر له في سلب طهارة الماء وتطهيره .

وإن غيره مجاورا أو مخالطا فهذا موضع اختلاف العلماء ، ولا حاجة بنا إلى ذكره .

ولكن أذكر ما يليق بالقاعدة الكلية ، فأقول :

683 - تخصيص الطهارات بالماء من بين سائر المائعات مما لا يعقل معناه وإنما هو تعبد محض ، وكل ما كان تعبدا غير مستدرك المعنى ، فالوجه فيه اتباع اللفظ الوارد شرعا ، فلنتبع اسم الماء ; فكل تغير لا يسلب هذا الاسم لا يسقط التطهير .

[ ص: 448 ] وهذا الذي ذكرته كليا في تقدير دروس تفاصيل المذاهب ، هو المعتمد في توجيه المذهب المرتضى من بين المسالك المختلفة ؟ .

684 - وأما طريان الاستعمال ، فالمذاهب مختلفة في الماء المستعمل .

والذي يوجبه الأصل لو نسيت هذه المذاهب فتنزيله على اسم الماء وإطلاقه ، [ و ] ليس يمتنع تسمية المستعمل ماء مطلقا .

فيسوغ على حكم الأصل من غير تفصيل التوضؤ به ، تمسكا بالطهارة والاندراج تحت اسم الماء المطلق .

فهذا ما يتعلق بأحكام المياه على مقصدنا في هذا الركن . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية