الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
740 - ومقدار غرضنا من ذلك : أنه قد يظن ظان أن حكم الأنام إذا عمهم الحرام حكم المضطر في تعاطي الميتة ، وليس الأمر كذلك ، فإن الناس لو ارتقبوا فيما يطعمون أن ينتهوا إلى حالة الضرورة ، وفي الانتهاء إليها ( 251 ) سقوط القوى ، وانتكاث المرر ، وانتقاض البنية ، سيما إذا تكرر اعتياد المصير إلى هذه الغاية ، ففي ذلك انقطاع المحترفين عن حرفهم وصناعاتهم ، وفيه الإفضاء إلى ارتفاع الزرع والحراثة ، وطرائق الاكتساب ، [ ص: 478 ] وإصلاح المعايش التي بها قوام الخلق قاطبة وقصاراه هلاك الناس أجمعين ومنهم ذو النجدة والبأس ، وحفظة الثغور من جنود المسلمين ، وإذا وهوا ووهنوا ، وضعفوا واستكانوا ، استجرأ الكفار ، وتخللوا ديار الإسلام ، وانقطع السلك [ وتبتر ] النظام .

741 - ونحن على اضطرار من عقولنا نعلم أن الشرع لم يرد بما يؤدي إلى بوار أهل الدنيا ، ثم يتبعها اندراس الدين ، وإن شرطنا في حق آحاد من الناس في وقائع نادرة أن ينتهوا إلى الضرورة ، فليس في اشتراط ذلك ما يجر فسادا في الأمور الكلية .

ثم إن ضعف الآحاد بطوارئ نادرة ، إن جرت أمراضا وأعراضا ، فالدنيا قائمة على استقلالها بقوامها ورجالها ، ونحن مع بقاء المواد منها نرجو للمنكوبين أن يسلموا ويستبلوا عما بلوا به .

742 - فالقول المجمل في ذلك إلى أن نفصله : أن الحرام إذا طبق الزمان وأهله ، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلا ، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة ، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس ، بل الحاجة في حق الناس كافة [ ص: 479 ] تنزل منزلة الضرورة ، في حق الواحد المضطر ، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ، ولم يتعاط الميتة ، لهلك . ولو صابر الناس حاجاتهم ، وتعدوها إلى الضرورة ، لهلك الناس قاطبة ، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ، ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد . فافهموا ، ترشدوا . .

743 - بل لو هلك واحد ، لم يؤد ( 252 ) هلاكه إلى خرم الأمور الكلية ، الدنيوية والدينية ، ولو تعدى الناس الحاجة ، لهلكوا بالمسلك الذي ذكرناه من عند آخرهم .

وما عندي أنه يخفى مدرك الحق الآن بعد هذا البيان على مسترشد .

744 - فإذا تقرر قطعا أن المرعي الحاجة ، فالحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول ، والمقدار الذي بان أن الضرورة وخوف الروح ليس مشروطا فيما نحن فيه ، كما يشترط في تفاصيل الشرع في الآحاد في إباحة الميتة ، وطعام الغير ، وليس من الممكن أن نأتي بعبارة عن الحاجة نضبطها ضبط التخصيص [ ص: 480 ] والتمييز حتى تتميز تميز المسميات والمتلقبات ، بذكر أسمائها وألقابها ، ولكن أقصى الإمكان في ذلك من البيان تقريب وحسن ترتيب ، ينبه على الغرض ، فنقول :

745 - لسنا نعني بالحاجة تشوف الناس إلى الطعام ، وتشوقها إليه ، فرب [ مشته ] لشيء لا يضره الانعكاف عنه فلا معتبر بالتشهي والتشوف ، فالمرعي إذا دفع الضرار ، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم ، وربما يستبان الشيء بذكر نقيضه .

ومما يضطر محاول البيان إليه أنه قد يتمكن من التنصيص على ما يبغيه بعبارة رشيقة ، تشعر بالحقيقة ، والحد الذي يميز المحدود عما عداه ، وربما لا يصادف عبارة ناصة ، فتقتضي الحالة أن يقتطع عما يريد تمييزه ما ليس منه ، نفيا وإثباتا ، فلا يزال يلقط أطراف الكلام ويطويها حتى يفضي بالتفصيل إلى الغرض المقصود .

وهذا سبيلنا فيما دفعنا إليه ، فقد ذكرنا الحاجة ، وهي مبهمة فاقتطعنا من الإبهام التشوف والتشهي المحض من غير فرض ضرار [ ص: 481 ] من الانكفاف ، ومما نقطعه أن الانكفاف عن الطعام قد لا يستعقب ضعفا ووهنا حاجزا عن التقلب في الحال ، ولكن إذا ( 253 ) تكرر الصبر على ذلك الحد من الجوع ، أورث ضعفا ، فلا نكلف هذا الضرب من الامتناع .

746 - ويتحصل من مجموع ما نفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل ، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به ما يتوقع منه فساد البنية ، أو ضعف يصد عن التصرف والتقلب في أمور المعاش .

747 - فإن قيل : هلا جعلتم المعتبر في الفصل ما ينتفع به المتناول ؟

قلنا : هذا سؤال [ عم ] عن مسالك المراشد ، فإنا إن أقمنا الحاجة العامة في حق الناس كافة مقام الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار ، فمن المحال أن يسوغ الازدياد من الحرام ، انتفاعا ، وترفها ، وتنعما .

فهذا منتهى البيان في هذا الشأن .

[ ص: 482 ] ويتصل الآن بذلك القول في أجناس المطعومات ، ثم إذا اندفعنا في الملابس والمساكن ، وما في معانيها ، فنقول :

الأقوات بجملتها مندرجة تحت ضبط المقدم ، ومن جملتها اللحوم .

749 - فإن قيل : هلا اكتفى الناس بالخبز وما في معناه في ابتلائهم بملابسة الحرام ؟

قلنا : من أحاط بما أوضحناه فيما قدمناه ، هان عليه مدرك الكلام في ذلك ، فإنا اعتمدنا الضرار وتوقعه ، ولا شك أن في انقطاع الناس عن اللحوم ضرارا عظيما ، يؤدي إلى إنهاك الأنفس ، وحل القوى .

ثم إذا تبين ذلك فلا تعيين فيما يتعاطاه الناس من هذه الفنون ، مع فرض القول في أن جميعها محرم .

فليقع الوقوف على المنتهي الذي اعتبرناه في محاولة درء الضرار .

750 - وأما الأدوية والعقاقير التي تستعمل ، [ فمنع ] استعمالها مع مسيس الحاجة إليها يجر ضرارا . وقد سبق القول في ذلك .

751 - فإن قيل : ما ترون في الفواكه التي ليست ( 254 ) أقواتا ولا أدوية ؟

[ ص: 483 ] 752 - قلنا : ما من صنف منها إلا يسد مسدا ، فليعتبر فيها درء الضرار بها ، فما يدرأ استعماله ضرارا ، فهو ملتحق بالأجناس التي تقدم ذكرها . فهذا منتهى القول في صنوف الأطعمة .

753 - فأما الملابس ، فإنها تنقسم قسمين : أحدهما - ما في استعماله درء الضرار ، فسبيل إباحته كسبيل الأطعمة .

والقسم الثاني - ما لا يدرأ ضرارا ، ولكن يتعلق لبسه بستر ما يجب ستره ، أو برعاية المروءة .

754 - فأما ستر العورة ، فهو ملتحق بما يدفع استعماله الضرار من المطاعم والملابس ، فإن تكليف التعري عظيم الوقع ، وهو أوقع في النفوس من ضرر الجوع والضعف ، ووضوح هذا يغني عن الإطناب فيه .

ونحن على قطع نعلم أنه لا يليق بمحاسن الشريعة تكليف الرجال والنساء التعري ، مع إمكان الستر .

التالي السابق


الخدمات العلمية