الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

صفحة جزء
[ ص: 484 ] 755 - وأما ما يتعلق بالمروءة من اللبس ، فأذكر قبله معتبرا منصوصا عليه للأئمة - رضي الله عنهم - .

قالوا : من أفلس وأحاطت به الديون واقتضى رأي القاضي ضرب حجر عليه عند استدعاء غرمائه ، فنبقي له دست ثوب ، ولا نتركه بإزار يستر عورته .

فإذا أبقوا له إقامة لمروءته [ أثوابا ] ، وإن كان قضاء الديون الحالة محتوما ، فلا يبعد أن يسوغ في شمول التحريم لبس ما يتضمن ترك لبسه خرما للمروءة . ثم ذلك يختلف باختلاف المناصب والمراتب . ولا يتبين الغرض من هذا الفصل إلا بمزيد كشف .

756 - فنقول : ما من رجل إلا وهو يتردد بين طورين في المحنة والمعافاة ، ثم بين طرفي حاليه أحوال متوسطة ، ثم له في كل حالة من حالاته التي يلابسها اقتصاد ، وتوسط ، واقتصار على الأقل ، وتناه في التحمل ، فإن اقتصر ، لم يعد خارما لمنصبه ، وإن طلب النهاية ، لم يعد مسرفا ، وإن اقتصر كان بين طرفي الإقلال [ ص: 485 ] والكمال ، ثم المحجور عليه المفلس ، يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه ، ويكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه .

فالوجه أن نقول : إذا عم التحريم ، اكتفى كل بما يترك عليه من الثياب لو حجر عليه .

757 - فإن قيل : لو عري رجل ، ووجد ثوبا لغيره ليس معه مالكه ، ودخل عليه وقت الصلاة ، فإنه يصلي عاريا ، ولا يلبس ما ليس له .

قلنا : لأن المرعي في حق الآحاد حقيقة الضرورة ، وقد ذكرنا أنه لا يرعى فيما يعم الكافة الضرورة ، بل يكتفى بحاجة ظاهرة .

والمقدار الذي ذكرناه من اللبس في حكم الحاجة الظاهرة ، والدليل عليه ما ذكرناه في حكم المفلس .

ثم هذا الذي ذكرته في لبس المروءة مع عموم التحريم ظاهر في مسالك الظنون ، ولا يبلغ القول فيه عندي مبلغ القطع .

والذي قدمته في المطاعم مقطوع به .

وكذلك المقدار الذي يتعلق بستر العورة مقطوع به ; فإن الناس ينقطعون بسبب التعري عن التقلب والتصرف ، كما يمتنعون بضعف الأبدان ، ووهن الأركان عن المكاسب .

758 - فهذه جمل في المطاعم والملابس كاملة أتينا فيها [ ص: 486 ] بالبدائع والآيات ، مقيدة بالحجج والبينات ، وإنما يعرف قدرها متعمق في العلوم موفق .

759 - فأما المساكن ، فإني أرى مسكن الرجل من أظهر ما تمس إليه حاجته ، [ والكن ] الذي يؤويه وعيلته وذريته ، مما لا غناء به عنه .

وهذا الفصل مفروض فيه إذا عم التحريم ، ولم يجد أهل الأصقاع والبقاع متحولا عن ديارهم إلى مواضع مباحة ، ولم يستمكنوا من إحياء موات ( 256 ) وإنشاء مساكن سوى ما هم ساكنوها .

760 - فإن قيل : ما اتخذتموه معتبركم في الملابس المفلس المحجور عليه ، ثم لا يترك على المفلس مسكنه .

قلنا : سبب ذلك أنه في غالب الأمر نجد كنا بأجرة نزرة ، فليكتف بذلك .

والذي دفعنا إليه لا يؤثر هذا المعنى فيه ، فإن المجتنب عند عموم التحريم ملابسة المحرمات ، وهذا المعنى يطرد في البقاع المستأجرة وغيرها .

فإذا تقرر التحاق المساكن بالحاجات ، وبطل النظر إلى [ ص: 487 ] المملوك والمستأجر [ لعموم ] التحريم ، ولا طريق إلا ما قدمناه .

761 - ثم يتعين الاكتفاء بمقدار الحاجة ، ويحرم ما يتعلق بالترفه والتنعم .

فهذا مبلغ كاف فيما أردناه ، فإن شذت عنا صور في الفصل المفروض لم نتعرض لها ، ففيما مهدناه بيان ما تركناه .

762 - ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أن جميع ما ذكرناه فيه إذا عمت المحرمات ، وانحسمت الطرق إلى الحلال فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحل فيتعين عليهم ترك الحرام ، واحتمال الكل في كسب ما يحل ، وهذا فيه إذا كان ما يتمكنون منه مغنيا كافيا دارئا للضرورات ، سادا للحاجة .

فأما إذا كان لا يسد الحاجة العامة ، ولكنه يأخذ مأخذا ، ويسد مسدا ، فيجب الاعتناء بتحصيله ، ثم بقية الحاجة تتدارك بما لا يحل ، على التفصيل المقدم .

763 - فإن قيل : ما ذكرتموه فيه إذا طبقت المحرمات طبق الأرض ، واستوعب الحرام طبقات الأنام . فما القول فيه إذا اختص ذلك بناحية من النواحي ؟ .

[ ص: 488 ] قلنا : إن تمكن أهلها من الانتقال إلى مواضع ، يقتدرون فيها على تحصيل الحلال ، تعين ذلك .

764 - فإن تعذر ذلك عليهم ، وهم جم غفير ، وعدد كبير ( 257 ) ولو اقتصروا على سد الرمق ، وانتظروا انقضاء أوقات الضرورات ، لانقطعوا عن مطالبهم ، فالقول فيهم كالقول في الناس كافة ، فليأخذوا أقدار حاجتهم كما فصلناها . فهذا نهاية المطلب في دارية هذه القاعدة العظيمة .

765 - فإن قيل : أطلقتم تصوير عموم التحريم ، فأبينوا ما أبهمتموه ، وأوضحوا ما أجملتموه .

قلنا : إذا استولى الظلمة ، وتهجم على أموال الناس الغاشمون ، ومدوا أيديهم اعتداء إلى أملاكهم ، ثم فرقوها في الخلق وبثوها ، وفسدت مع ذلك الساعات ، وحادت عن سنن الشرع المعاملات ، وتعدى ذلك إلى ندور الأقوات ، وتمادى على ذلك الأوقات ، وامتدت الفترات ، ولا خفاء بتصوير ما نحاوله .

[ ص: 489 ] ثم إذا ظهر ما ذكرناه ، ترتبت عليه الشبهات ، فإذا جاز أخذ الكفاية من المحرمات ، لم يخف جوازه في مظان الشبهات .

766 - ثم تختص هذه الحالة بحكم : وهو أن من صادف شيئا في يد إنسان ، وهو يدعيه لنفسه ملكا ، وما عم التحريم في الزمان ، فيجوز للناظر إلى ما في يده الأخذ بكونه ملكا له ، وإن غلب على الظن تحريمه ، وكيف لا والقاضي يجريه على ملكه عند فرض النزاع ، حتى تقوم بينة لمن يدعيه ، ويزعم كون صاحب اليد مبطلا فيه ، وهذا حكم الجواز .

ولا يخفى مأخذ الورع على من ينتحيه .

فهذا الفصل [ العظيم ] القدر الذي رأينا تقديمه على الخوض في غرضنا من العصر الذي يدرس فيه العلم بتفاصيل الشريعة ، وقد عاد بنا الكلام إليه .

767 - فنقول : إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل ، فنتكلم فيما يحل ويحرم من الأجناس ، ثم نتكلم فيما يتعلق بالتصرف في الأملاك ( 258 ) ، وحقوق الناس .

[ ص: 490 ] 768 - فأما القول فيما يحرم ويحل من أجناس الموجودات ، فليس يخفى على أهل الإسلام - ما بقيت أصول الأحكام - أن مرجع الأدلة السمعية كلها كتاب الله تعالى .

وأبين آية في القرآن في التحريم والتحليل ، قول الله العزيز : ( ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) ) .

وهذه الآية من المحكمات التي لا يتطرق إليها تعارض الاحتمالات ; وطرق التأويلات ، وليست من المتشابهات ، وهي من آخر ما نزل على المصطفى ، وقد انطبق مذهب مالك إمام دار الهجرة على ظاهر الآية ، ولو قلت : هذه الآية ليست معضلة علي [ في ] محاولة الذب عن مذهب الشافعي - رضي الله عنه - ، لكنت مظهرا ما لا أضمره .

769 - فإذا نسيت المذاهب فما لا يعلم فيه تحريم يجري على حكم الحل ، والسبب فيه أنه لا يثبت لله حكم على المكلفين غير مستند إلى دليل ، فإذا انتفى دليل التحريم ثم استحال الحكم به .

[ ص: 491 ] فإن قيل : كما انتفى الدليل على التحريم ، انتفى الدليل على التحليل .

قلنا : إذا انحسمت مسالك الأدلة في النفي والإثبات ، فموجب انتفائها انتفاء الحكم ، وإذا انتفى الحكم ، التحق المكلفون في الحكم الذي تحقق انتفاؤه بالعقلاء قبل ورود الشرائع ، ولو لم يرد شرع ، لما كان على الناس من جهة الله تعالى حجر وحرج ، ثم إقدامهم وإحجامهم مع انتفاء الحجر عنهم يستويان ، ومقصود الإباحة في الشرع انتفاء الحرج ، واستواء الفعل والترك .

وهذا في التحقيق بمثابة انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع .

770 - فإن قيل من الأصول أن الأعيان لله تعالى ، فلتبق على الحظر إلى أن يرد من مالك الأعيان ( 259 ) إطلاق .

قلنا : هذا قول من يرى المصير إلى الحظر قبل ورود الشرائع ، وهذا المذهب باطل قطعا ، وقد رددنا على منتحليه في أصول الفقه ، فليطلبه من يحاوله في ذلك الفن .

التالي السابق


الخدمات العلمية