صفحة جزء
2234 - ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة المؤدين للدين عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ويعنى بسيرهم وفضائلهم ويعرف أحوال الناقلين عنهم وأيامهم وأخبارهم حتى يقف على العدول منهم من غير العدول وهو أمر قريب كله على من اجتهد فمن اقتصر على علم إمام واحد وحفظ ما كان عنده من السنن ووقف على غرضه ومقصده في الفتوى حصل على نصيب من العلم وافر وحظ منه حسن صالح ، فمن قنع بهذا اكتفى والكفاية غير الغنى ، والاختيار له أن يجعل إمامه في ذلك إمام أهل المدينة دار الهجرة ومعدن السنة ، ومن طلب الإمامة في الدين وأحب أن يسلك سبيل الذين جاز لهم الفتيا نظر في أقاويل الصحابة والتابعين والأئمة في الفقه إن قدر على ذلك نأمره [ ص: 1135 ] بذلك كما أمرناه بالنظر في أقاويلهم في تفسير القرآن ، فمن أحب الاقتصار على أقاويل علماء الحجاز اكتفى إن شاء الله واهتدى ، وإن أحب الإشراف على مذاهب الفقهاء متقدمهم ومتأخرهم بالحجاز والعراق وأحب الوقوف على ما أخذوا وتركوا من السنن وما اختلفوا في تثبيته وتأويله من الكتاب والسنة كان ذلك له مباحا ووجها محمودا إن فهم وضبط ما علم ، أو سلم من التخليط نال درجة رفيعة ووصل إلى جسيم من العلم واتسع ونبل إذا فهم ما اطلع ، وبهذا يحصل الرسوخ لمن وفقه الله وصبر على هذا الشأن واستحلى مرارته واحتمل ضيق المعيشة فيه ، واعلم رحمك الله أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه ، قد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا تفهم وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم فجمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم والحق والكذب في كتاب واحد ، وربما في ورقة واحدة ويدينون بالشيء وضده ولا يعرفون ما في ذلك عليهم قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار عن التدبر والاعتبار فألسنتهم تروي العلم وقلوبهم قد خلت من الفهم ، غاية أحدهم معرفة الكنية العربية والاسم الغريب والحديث المنكر وتجده قد جهل ما لا يكاد يسع أحدا جهله من علم صلاته وحجه وصيامه وزكاته ، وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد لم يعنوا بحفظ سنة ولا الوقوف على معانيها ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل فحفظوا تنزيله ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله ، ولا وقفوا على أحكامه ، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه ، قد اطرحوا علم السنن والآثار وزهدوا فيها ، وأضربوا عنها فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف بل عولوا على حفظ ما دون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم من الفتوى فيه ، ويودون أن حظهم [ ص: 1136 ] السلامة منه ، ومن حجة هذه الطائفة فيم عولوا عليه أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له المراتب في الدين ؛ بجهلهم بأصوله ، وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم ؛ فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم ، وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم فيما لم يتقدمهم فيه إلى الجواب غيرهم ، فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل ويفرطون الأحكام فيه ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره ولو علموا أصول الدين وطرق الأحكام وحفظوا السنن كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم ، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه فهم يفرطون في انتقاص الطائفة الأولى وتجهيلها وعيبها وتلك تعيب هذه بضروب من العيب ، وكلهم يتجاوز الحد في الذم وعند كل واحد من الطائفتين خير كثير وعلم كبير ، أما أولئك فكالخزان الصيدلانيين وهؤلاء في جهل معاني ما حملوه مثلهم إلا أنهم كالمعالجين بأيديهم لعلل لا يقفون على حقيقة الداء المولد لها ولا حقيقة طبيعة الدواء المعالج به ؟ فأولئك أقرب إلى السلامة في العاجل والآجل ، وهؤلاء أكثر فائدة في العاجل وأكبر غرورا في الآجل ، وإلى الله تعالى نفزع في التوفيق لما يقرب من رضاه ويوجب السلامة من سخطه فإنما ننال ذلك برحمته وفضله ، واعلم يا أخي أن المفرط في حفظ المولدات لا يؤمن عليه الجهل بكثير من السنن إذا لم يكن تقدم علمه بها ، وأن المفرط في حفظ طرق الآثار دون الوقوف على معانيها وما قال الفقهاء فيه لصفر من العلم وكلاهما قانع بالشم من الطعام ومن الله التوفيق والحرمان وهو حسبي وبه أعتصم ، [ ص: 1137 ] واعلم يا أخي أن الفروع لا حد لها تنتهي إليه أبدا ؛ فلذلك تشعبت فلذلك من رام أن يحيط بآراء الرجال فقد رام ما لا سبيل له ولا بغيره إليه ؛ لأنه لا يزال يرد عليه ما لم يسمع ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره لكثرته فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط الذي كان يفزع منه ويجبن عنه تورعا بزعمه أن غيره كان أدرى بطريق الاستنباط منه فلذلك عول على حفظ قوله ، ثم إن الأيام تضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول فجعل الرأي أصلا واستنبط عليه ، وقد تقدم في كتابنا هذا كيف وجه القول واجتهاد الرأي على الأصول عندما ينزل بالعلماء من النوازل في أحكامهم ملخصا في أبواب مهذبة من تدبرها وفهمها وعمل عليها نال حظه ووفق لرشده إن شاء الله ، واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب فيصار إليه ويعرف أصل القول وعلته فيجري عليه أمثلته ونظائره ، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا كما شاء ربنا ، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب ، فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها وحسب أحدهم أن يقول رواية لفلان ورواية لفلان ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها فكأنه قد خالف نص الكتاب وثابت السنة ، ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام ، وذلك خلاف أصل مالك وكم لهم من خلاف أصول خلاف مذهبهم مما لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره ، ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة ، أو الشافعي ، أو داود بن علي ، أو غيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال : هكذا قال فلان ، وهكذا روينا ، [ ص: 1138 ] ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته ، فإن عارضه الآخر بذكر فضائل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول :

2235 -

2235 - شكونا إليهم خراب العرا ق فعابوا علينا لحوم البقر     فكانوا كما قيل فيما مضى
أريها السها وتريني القمر



2236 - وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد رحمه الله :


عذيري من قوم يقولون كلما     طلبت دليلا هكذا قال مالك
وإن عدت قالوا هكذا قال أشهب     وقد كان لا يخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا قال سحنون مثله     ومن لم يقل ما قال فهو آفك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا     وقالوا جميعا أنت قرن مماحك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم     ائت مالكا في ترك ذاك المالك



وأجازوا النظر في اختلاف أهل مصر وغيرهم من أهل المغرب فيما خالفوا فيه مالكا من غير أن يعرفوا وجه قول مالك ولا وجه قول مخالفه ، منهم ولم يبيحوا النظر في كتب من خالف مالكا إلى دليل يبينه ووجه يقيمه لقوله وقول مالك جهلا فيهم وقلة نصح وخوفا من أن يطلع الطالب على ما هم فيه من النقص والقصر فيزهد فيهم ، وهم مع ما وصفنا يعيبون من خالفهم ويغتابونه ويتجاوزون القصد في ذمه ؛ ليوهموا السامع لهم أنهم على حق وأنهم أولى باسم العلم وهم ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) ، وإن أشبه الأمور بما هم عليه ما .

2237 - قاله منصور الفقيه رحمه الله : [ ص: 1139 ] .


خالفوني وأنكروا ما أقول     قلت لا تعجلوا فإني سؤول
ما تقولون في الكتاب فقالوا     هو نور على الصواب دليل
وكذا سنة الرسول وقد     أفلح من قال ما يقول الرسول
واتفاق الجميع أصل وما     ينكر هذا وذا وذاك العقول
وكذا الحكم بالقياس فقلنا     من جميل الرجال يأتي الجميل
فتعالوا نرد من كل قول     ما نفى الأصل أو نفته الأصول
فأجابوا فنوظروا فإذا العلم     لديهم هو اليسير القليل



فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها واعلم أن من عنى بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء فجعله عونا له على اجتهاده ومفتاحا لطرائق النظر وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني ، ولم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدائهم في البحث والتفهم والنظر وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرئوا أنفسهم منه فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم وعمن اتبع بإحسان آثارهم ، ومن أعفى نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل ، ومن جهل ذلك كله أيضا وتقحم في الفتوى بلا علم فهم أشد عمى وأضل سبيلا :


لقد أسمعت لو ناديت حيا     ولكن لا حياة لمن تنادي .




وقد علمت أنني لا أسلم     من جاهل معاند لا يعلم .

[ ص: 1140 ] .


ولست بناج من مقالة طاعن     ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما     ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر



واعلم يا أخي أن السنن والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه وليس الرأي بالعيار على السنة بل السنة عيار عليه ، ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية