صفحة جزء
1051 - وقال ابن نعيم أخبرني إبراهيم بن محمد بن حاتم الزاهد ، نا الفضل بن محمد الشعراني ، قال : سمعت يحيى بن أكثم ، وسئل ، متى تحب للرجل أن يفتي قال : " إذا كان بصيرا بالرأي ، بصيرا بالأثر " .

قلت : وينبغي أن يكون : قوي الاستنباط جيد الملاحظة ، رصين الفكر ، صحيح الاعتبار ، صاحب أناة وتؤدة ، وأخا استثبات ، وترك عجلة ، بصيرا بما فيه المصلحة ، مستوقفا بالمشاورة ، حافظا لدينه ، مشفقا على أهل ملته ، مواظبا على مروءته ، حريصا على استطابة مأكله ، فإن ذلك أول أسباب التوفيق ، متورعا عن الشبهات ، صادفا عن فاسد التأويلات ، صليبا في الحق ، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى ، وطرق الاجتهاد ، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة ، واعتوره دوام السهر ، ولا موصوفا بقلة الضبط ، منعوتا بنقص الفهم ، معروفا بالاختلال ، يجيب بما لا يسنح له ، ويفتي بما يخفى عليه ، وتجوز فتاوى أهل الأهواء ، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق ، فأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ، ويسبون السلف الصالح ، فإن فتاويهم مرذولة ، وأقاويلهم غير مقبولة .

وفي معرفة من يصلح أن يفتي تنبيه على من لا تجوز فتواه .

واعلم أن العلوم كلها أبازير الفقه ، وليس دون الفقه علم إلا ، [ ص: 334 ] وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه ، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وإلى معرفة الجد والهزل ، والخلاف والضد ، والنفع والضر ، وأمور الناس الجارية بينهم ، والعادات المعروفة منهم .

فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال ، والاجتماع من أهل النحل والمقالات المختلفة ، ومساءلتهم ، وكثرة المذاكرة لهم ، وجمع الكتب ، ودرسها ، ودوام مطالعتها .

والدليل على ما ذكرناه أن الله تعالى لما أراد إعلام الخلق أن ما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم ، من القصص ، والأخبار الماضية ، والسير المتقدمة معجز أعلمهم أنه لا يعرف بلقاء الرجال ، ودراسة الكتب ، وخطه بيمينه ، ليصدق قوله إنه إعلام من الله ، فدل على أن محصول ذلك في العادة بالملاقاة ، والبحث والدرس ، ووجوده بخلاف ذلك خرق عادة صار به معجزا ، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن لنفيها عنه معنى .

قيل لبعضهم : أي كتبك أحب إليك ؟ قال : " ما أتبصره علما وأتصوره فهما " ، وقيل لآخر ، فقال : " ما أفيد منه وأستفيد " وقيل لآخر ، فقال : " ما أعلم وبه أعمل " ، وقيل لبعض الحكماء : إن فلانا جمع كتبا كثيرة ، فقال : " هل فهمه على قدر كتبه ؟ قيل : لا ، قال : فما صنع شيئا ، ما تصنع البهيمة بالعلم " ، وقال رجل لرجل كتب ولا يعلم شيئا مما كتب : " ما لك من كتبك إلا فضل تعبك ، وطول أرقك ، وتسويد ورقك " .

[ ص: 335 ] قلت : وهذه حال من اقتصر على النقل إلى كتابه من غير إنعام النظر فيه ، والتفكير في معانيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية